من باب البنط إلى برحة الزبيدي

• م. شاهر محمد درويش رقام

المكان: جدة – باب البنط
الزمان: بدايات القرن العشرين
وصلت الباخرة من السويس ورست عند الحفرة وتسابقت المعادي والسنابيك إليها لتفريغ حمولتها من ركاب وبضائع. شاب نحيل بصحبة والده يصعدان الإسكله ويعبران من البنط ويستقبلهما الأهل والأحباب ويحمدون الله على سلامة الوصول.
كان ذلك الشاب يدرس في الأزهر بعد أن كان والده قد ابتعثه إلى الهند للدراسة ومزاولة العمل في مكتبه التجاري ليكتسب الخبرة ولكن ذلك الشاب كانت نفسه تتوق للأزهر وعلومه إلا أن والده كان يخشى عليه حيث كانت القاهرة في تلك الأيام غير مستقرة وتعيش خلافاً مستمراً وحالة من التمرد على الباب العالي فكان الوالد يخشى على ابنه أن يتورط في ذلك أو أن يصيبه مكروه لذلك كان يحاول إبعاده قدر الإمكان. لكن ذلك الفتى تسلل من بومباي إلى القاهرة. وحين علم الوالد بذلك سافر من فوره لإعادة ابنه وذاك ما كان.
عاد ذلك الشاب إلى جدة وألحقه أبوه بمكتبه التجاري وأجرى له راتباً ضخماً فقد كان والده من كبار التجار. بعد ذلك قام الوالد بتزويج ابنه من ابنة عمه الذي كان بمثابة حاكم جدة فاجتمعت لهذا الشاب الذي لم يبلغ العشرين ربيعاً المال والسلطة. كان من الطبيعي وتحت سطوة المال والسلطة أن يتجه ذلك الفتى إلى الدنيا ولهوها وأن يتمتع بتلك الثروة الضخمة ولكنه كان يحمل هماً وكان صاحب رسالة سامية، كان يريد النهوض بوطنه وبأهله فسرعان ما انخرط في العمل الوطني من خلال حزب الحجاز الوطني الذي كان له مواقف عظيمة مشرفة. كذلك قام مع مجموعة أخرى بتأسيس حراك اجتماعي آخر هو نادي الصلاة والذي كان من خلاله يشجع الشبان والفتية على الرياضة والمحافظة على الصلاة. كذلك كان يستقصي أحوال الناس ويساعد الأيتام والفقراء والأرامل. لكن كانت قضيته الكبرى وشغله الشاغل القضاء على الأمية المنتشرة في المجتمع ولكن كيف السبيل إلى ذلك وقد كانت السلطات تمنع تعليم اللغة العربية. فقرر أن يتحدى الجميع ويتحمل كل المتاعب والتكاليف للقضاء على الأمية. أسر بذلك إلى بعض رفاقه همساً فأيدوه ودعموه وانطلقوا سوياً يحملهم إخلاصهم لدينهم وحماس الشباب وجرأة الحق وحب الوطن.
اتفقوا جميعاً على أن التجار هم أكثر من قد يهمهم تعليم أبنائهم ليساعدوهم في ضبط أعمالهم فبدأوا في الترويج لفكرتهم عند التجار سراً إلى أن استطاعوا إقناع مجموعة منهم بالموافقة على السماح لهم بتعليم أبنائهم واتفق الجميع على سرية العمل تفادياً لأي مشاكل مع السلطة. بدأ العمل في شوال 1323 ه وكان الرفاق يتوجهون يومياً بعد صلاة المغرب إلى دكاكين التجار لاصطحاب طلابهم إلى المقر السري (بيت ذاكر -حارة المظلوم) ويدرس الطلاب لمدة ساعة واحدة تقريباً إلى آذان العشاء ثم يعود كل واحد منهم بمجموعته لإعادتهم لآبائهم. استمر العمل سراً وتنقلوا في عدة بيوت لمدة اربعة أعوام إلى أن جاءهم الفرج وحصلوا على تصريح إنشاء أول مدرسة عربية نظامية ذات منهج محدد في الجزيرة العربية عام 1327 ه. فاستأجر ذلك الشاب مكاناً مناسباً وأنشأ فصولاً وقام هو وزملاؤه باعداد منهج دراسي متكامل للدراسة الابتدائية. وهنا بدأت الحاجة إلى توظيف كادر تعليمي متخصص ومؤهل فتوجه إلى الأزهر وأختار نخبة من المدرسين الأفاضل في جميع التخصصات. في تلك الأثناء عُرِضَ بيت ناظر الصحة يوسف بك والواقع في برحة الزبيدي للبيع وكان صاحبنا يرى في ذلك البيت حلمه من حيث المساحة والموقع فهو مكان نموذجي لإنشاء مدرسة نظامية متكاملة بكل مرافقها. ولكن بطلنا لم يكن يملك المال الكافي لشراء المنزل وإنشاء المدرسة في مكانه. حينها قامت زوجته بالتبرع بكل ذهبها وزينتها لصالح المدرسة فقام بشراء البيت وأنشأ مبنى نموذجيا للمدرسة التي لا زالت قائمة إلى الآن وقد تجاوز عمر ذلك المبنى الآن المئة عام فقد كان افتتاح هذه التحفة المعمارية في عام 1335 ه. امتدت رحلة كفاح ذلك الرجل في سبيل أمته لأكثر من ستة وستين عاماً. رحم الله الحاج محمد علي زينل مؤسس مجموعة مدارس الفلاح. رحم الله زملاؤه في الكفاح الشيخين الأخوين عبد الرؤوف و محمد صالح جمجوم. رحم الله أساتذتنا وآبائنا وكل من ساهم في هذا العمل الجليل.
كُل يومٍ لك احتمال جديد
ومسيرٌ للمجدِ فيه مقامُ
إذا كانت النفوسُ كباراً
تعبت في مرادها الأجسامُ

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *