ما زلنا نلقي بعض الضوء على تاريخ بوابة الحرمين والميناء الرئيس لوطننا الغالي المملكة العربية السعودية، مدينة جُدَّة . وقد سبقت الإشارة إلى أنه بخلاف تاريخ المدينتين المقدستين، مكة المكرمة والمدينة المنورة والتي أهتم المؤرخون بتاريخهما وتدوين أحداثهما منذ فترة صدر الإسلام، لم تحصل جُدَّة على ذلك الاهتمام إلا في فترة متأخرة نسبياً بدءاً من القرن العاشر الهجري باستثناء بعض ألإشارات التي كانت ترد في مصادر تاريخ مكة المكرمة وعلاقتها بميناء جُدَّة أو ببعض القضاء والولاة الذين كانوا مرتبطين بمكة المكرمة .
إلا أنه ومن حسن الحظ أن بعض الرحالة المسلمين وغيرهم الذين جاءوا إلى جُدَّة لزيارتها أو للذهاب منها إلى مكة المكرمة لاداء فريضة الحج قاموا بتسجيل ملاحظاتهم عن هذه المدينة العريقة وعن سكانها ومنازلهم وأسواقهم وعاداتهم وتقاليدهم وغير ذلك مما حفظ جزئاً كبيراً عن تاريخ مدينة جُدَّة .. ما كان يحفظ لولا هؤلاء الرحالة وغيرهم ممن سجل تاريخ المدينة عند زيارتهم لها على مر القرون .
كان من أوائل الرحالة قدوما إلى جُدَّة الرحالة العربي محمد بن أحمد المقدسي المعروف بالبشاري والذي قدم إلى جُدَّة في القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي , ألف عن رحلته كتابا قيماً أسماه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) . وقد ترك المقدسي –رحمه الله- وصفا لمدينة جُدَّة إبان زيارته لها يعد أحد أقدم السجلات المعروفة لهذه المدينة العريقة .
وفي القرن الخامس الهجري زار جُدَّة الرحالة ناصر خسرو علوي وتحدث عن زيارته لهذه المدينة في كتابه الموسوم (سفر نامه) .
وفي القرن السادس الهجري وصل الرحالة العربي الشهير ابن جبير إلى جُدَّة وترك وصفا دقيقا ومفصلا لهذا الثغر الإسلامي الهام وتحدث عن مساكن جُدَّة وعن أهلها وعن فنادقها وعن مينائها وغير ذلك في كتابه المعروف , والموسوم: (رحلة ابن جبير) .
كما تحدث ابن جبير عن مرسى (أبحر) وكان أحد أوائل من ذكروا هذا الشرم .
وبعد ذلك وصل الرحالة ابن المجاور إلى جُدَّة في القرن السابع الهجري ورسم للمدينة خريطة ربما تكون أقدم خريطة وصلت إلينا لمدينة جُدَّة . وتحدث ابن المجاور عن جُدَّة في كتابه الموسوم (تاريخ المستبصر) .
وفي القرن الثامن الهجري زار عميد رحالة العالم “ابن بطوطة” مدينة جُدَّة عدة مرات , وتحدث عنها في كتابه المعروف باسم(تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) .
وفي أوائل القرن العاشر الهجري , والسادس عشر الميلادي وتحديداً في عام (1503م) وصل إلى جُدَّة من يُقال أنه أول زائريها من الأوربيين , وهو المغامر الإيطالي لود فيكو دي فارتيما والذي اتخذ من اسم “الحاج يونس” اسماً ووصف جُدَّة في كتابه (رحلة فارتيما) .
وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي عام (1680م) جاء إلى جُدَّة الشاب الإنجليزي جوزيف بتس الذي ربما كان أول إنجليزي يزورها وقدم وصفا مختصراً لها في كتابه (رحلة جوزيف بتس) .
وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي عام (1762م) زار المستكشف والعالم الدنماركي “كارستن نيبور” جُدَّة على رأس وفد علمي أرسله ملك الدنمارك فردرك الخامس للتعرف على العرب وبلادهم وترك وصفاً مفصلاً لجُدَّة ضمنه كتابه عن رحلته إلى جزيرة العرب والمعروف باسم (رحلة إلى شبه الجزيرة العربية وبلاد أخرى مجاورة لها) .
وقد توقفت السفينة التي كانت تقل نيبور في مرسى خليج أبحر قبل الوصول إلى جُدَّة وتحدث الرحالة عن هذا المرسى بإيجاز في كتابه .
وفي أوائل القرن التاسع عشر الميلادي عام (1806م) قدم إلى جُدَّة من تذكر المصادر أنه ربما كان أول أسباني يزورها , وهو الرحالة (دمنجو باديا لابلخ) ووصف هذا الرحالة جُدَّة وصفا دقيقا ومفصلا ، كما رسم بعض المناظر للمدينة ، وضمن رسوماته تلك في كتابه عن رحلته . وقد عُرِفَ هذا الرحالة باسم “علي بك العباسي” .
ولعل الرحالة المسلم الشهير (جون لويس بيركهارت) كان أول سويسري يزور جُدَّة عندما قدم إليها في عام (1814م) وقضا فيها أربعين يوما ووصف المدينة وأسواقها وتحدث عن البضائع والمحال التجارية في هذه الأسواق ووصف مقاهي جُدَّة وذكر أسعار السلع والخدمات آنذاك فترك لنا سجلاً هاماً ومفصلاً لا يستغنى عنه أي باحث لتلك الفترة من تاريخ جُدَّة في كتاب أسماه (رحلات إلى شبه الجزيرة العربية) .
وفي عام (1834م) وصل من يعده الكثير أول زائر فرنسي لجُدَّة وهو الرحالة موريس تاميزييه والذي قدم ضمن جيش إبراهيم باشا الذي أرسله محمد علي باشا إلى عسير عن طريق جُدَّة . وقد وصف تاميزييه جُدَّة وصفا دقيقا ومفصلا في كتابه (رحلة إلى بلاد العرب) .
في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي وتحديداً في عام 1853م/1269هـ زار السير رتشارد بيرتون جُدَّة قادماً إليها من مكة المكرمة بعد أن أدى فريضة الحج وتحدث عن أهلها وقال: “إنهم متحضرون جداً” . ولكن بيرتون لم يتحدث كثيراً عن مساكن جُدَّة ولا عن متاجرها ولا غير ذلك ، واكتفى بتسجيل بعض الاضطرابات والقلاقل التي كانت المدينة تمر بها خلال وجوده فيها . ووصف مغادرة الحجاج للميناء . وتحدث عن لقائه ببعض تجار جُدَّة . كما أفرد بيرتون عدة صفحات من كتاب رحلته لوصف مقبرة أمنا حواء بجُدَّة واسم كتابه هو (رحلة بيرتون إلى مصر والحجاز) .
وفي عام (1890م) تتبع الفرنسي المسلم الرحالة جيل جرفيه كورتلمون خطى مواطنه تاميزييه وقدم إلى جُدَّة حيث وصلها في طريقه إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج ,وكتب عن رحلته كتاباً أسماه (رحلتي إلى مكة), وضمنه وصفا دقيقاً مفصلاً مع صور رسمها باليد وصور أخرى صورها فوتغرافياً لجُدَّة ولسورها ولأسواقها وبعض منازلها . كما وصف كورتلمون وسائل النقل من جُدَّة إلى مكة المكرمة , وتحدث عن تكاليف تلك الوسائل وغير ذلك من المعلومات التي تفيد كثيراً في رسم صوره لجُدَّة في القرن التاسع عشر الميلادي .
أمير الحج وقائد حرس المحمل اللواء إبراهيم رفعت باشا زار جُدَّة عدة مرات وذكرها في كتابه ” مرآة الحرمين” بتفصيل واسع يعد مرجعاً لا يستغني عنه أي باحث في تاريخ جُدَّة . وقد كان ابراهيم رفعت باشا قائداً لحرس المحمل عام 1318هـ/1901م.
كما كان أميراً للحج عام 1320هـ/1903م ، وعام 1321هـ/1904م ، وعام 1325هـ/1908م .
وفي أوائل القرن العشرين عام (1909م) وصل إلى جُدَّة الرحالة المصري محمد لبيب البتنوني ضمن الوفد الذي رافق خديوي مصر عباس باشا الثاني للحج ووصف رحلته ومنها الجزء المختص بجُدَّة في كتابه عن رحلة حجه أسماه الرحلة الحجازية .
وأهمية وصف البتنوني لمدينة جُدَّة تأتي من كون هذا الرحالة يختلف في رؤيته عن الرحالة الغربيين ويعطي وجهة نظر عربية لأحداث ومشاهد جُدَّة في ذلك الوقت .
لم تقتصر الرحلات إلى جُدَّة على الرجال فقط، فقد زارت السيدة النبيلة الأسكتلندية المسلمة افلن كوبلد والتي اتخذت من زينب اسماً لها بعد إسلامها) جُدَّة طريقها إلى مكة المكرمة للحج والمدينة المنورة للزيارة وكان ذلك عام 1933م بإذن خاص من جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود – رحمه الله ، وكان ذلك بعد أن بلغت السادسة والستين من العمر .
وقد سجلت وقائع رحلتها تلك في كتاب قيم اسمه PILGRIMAGE TO MECCA (رحلة حج إلى مكة) وقام الشيخ عمر أبو النصر اليافي – رحمه الله – بترجمته إلى اللغة العربية .
وفي عام (1936م) وصل إلى جُدَّة الرحالة اللبناني الطبيب عبدالغني شهبندر مترئساً الفريق الطبي الذي رافق حجاج لبنان في ذلك العام . وكتب كتاباً عن رحلته أسماه (الرحلة الحجازية) ، وصف فيه ميناء جُدَّة ومساكنها وفنادقها وأسعار غرف هذه الفنادق ومعلومات أخرى مفيدة عن هذه المدينة .
سيدة رحالة أخرى زارت جُدَّة هي الفنانة الرسامة المسلمة البريطانية سونيا ميلر والتي تزوجت من الأستاذ الجامعي المصري المسلم الدكتور يسري خليفة ، فتسمت باسم عائلته ثم اتخذت من اسم سعيده اسماً لها فأصبح اسمها سعيدة سونيا ميلر خليفة .
وزارت جُدَّة مع زوجها في طريقهم إلى مكة المكرمة للحج والمدينة المنورة للتشرف بالسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والصلاة في مسجده الشريف وكان ذلك عام 1970م .
كتبت عن رحلة حجها كتاباً قيماً اسمته (الركن الخامس) “THE FIFTH PILLAR”.
لهؤلاء وغيرهم الفضل في الحفاظ على جزء مهم من تاريخ مدينة جُدَّة .
ومنذ عام 1383هـ/1963م بدأت إصدارات بنات وأبناء جُدَّة المعاصرين في تدوين تاريخ مدينتهم . كما بدأ كثير من المواطنين السعوديين في مختلف أرجاء مملكتنا الحبيبة تدوين تواريخ مدنهم . وسنستعرض بعض تلك الكتابات في وقت لاحق إن شاء الله .

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *