مات الصحفي الذي تعايش مع الحزن والإبداع والألم

• ناصر الشهري

على تلك الطاولة الصغيرة التي كان يجلس خلفها رافعاً رجلاً على الكرسي المتواضع والثانية على الأرض ,يجلس صامتاً متأملاً في من حوله في صالة التحرير قبل أن “يسرح” بتفكيره لفترة ,ليبدأ بعدها بوضع يده اليسرى على ركبته والثانية على القلم بنصف ابتسامة لفكرة يبدو أنها قد حضرت إلى رأسه بطريقة تكمل مشهد الجلوس على طاولة النص المختلف لصحفي مختلف.. كان “يمزق” في كثير من المرات كل ما كتبه في منتصف البداية. وأحياناً في نهاية المطاف لأسباب منها عدم القناعة بجودة الطرح الذي يريد ,وأحياناً لإعادة ترتيب المادة بصيغة فرضتها الحالة أثناء الكتابة.
وفي كثير من المرات “يشتم رائحة” رقابة إجازة النشر. وفي الجزء الأخير من الصراع الذاتي كان محمد الفايدي يعيشه أثناء الكتابة يشكل هاجساً هو الأكثر تأثيراً على تعامله مع المادة الصحفية. وكيفية وصولها إلى القارئ. وتمرير إسقاطاتها الساخرة احياناً من بوابة رئيس التحرير أو مدير التحرير.. وفي هذا الجانب عليك ان تستعد لدفاع قوي قد يصل إلى المشاجرة الناعمة والغاضبة احياناً مع ذلك البدوي المليء بالفكر المهني الذي يكره تدخل الرقيب.
هكذا كان الصحفي المبدع الاستاذ محمد الفايدي الذي رحل عن هذه الدنيا يوم أمس دون فائدة من الحياة بقدر ما عاشها حزناً وهماً مهنياً وفقراً.إلاَّ من الانتماء الوطني الصادق. والغوص في قضايا الشارع العام وحياة المتعبين.
لقد عرفت ذلك الرجل الأنيق بفكره والعنيد في طرحه وعشنا لفترة عملية طويلة في صحيفة عكاظ حين كان الاستاذ رضا لاري يرحمه الله رئيساً للتحرير.
وكنا في مكتبين متجاورين. نتقاسم الإزعاج والابتسامات وهموم الكلام وهدوء الليل قبل ان يدخل على ساعة الوقت الاستاذ عبدالقادر شريم ومن بعده الاستاذ سباعي عثمان للمطالبة بالمواد الصحفية لإرسالها إلى الاخراج. حيث كنت يومها مسؤولاً عن الشؤون المحلية التي كان اجمل ما فيها هو ما يقدمه محمد الفايدي خبراً وتحقيقاً ورأياً..
وحين يكون الليل قد تجاوز المنتصف بكثير يكون “مركاز” الفايدي قد حان في “قهوة المحكمة” ,وذلك في اشارة إلى محكمة جدة القريبة من مقر الصحيفة التي تقع بجوار المقهى.. وهناك ينتظر عدداً من الصحفيين والكتاب إطلالة بدوي الصحافة في حوارات لا تنتهي قبل اذان الفجر احياناً.
ومن تحقيقاته الطريفة في طرحها وتناولها .. والهامة ذات البعد في مضامينها. تقمص الفايدي دور الشحاذ عند باب مسجد عكاشة وجلس بجوار أصحاب المهنة ونشر تحقيقاً خطيراً عن المهنة وحجم كذب الشحاذين ومضايقاتهم له كشحاذ جديد في نظرهم يتقاسم معهم الغنيمة.
وفي تحقيق آخر قام بارتداء ملابس امرأة وتجول في شارع قابل بجدة. وخرج بعدد كبير من ارقام هواتف المعاكسين واسمائهم وتصرفاتهم في ايذاء وملاحقة النساء. ونشر التحقيق دون الإشارة إلى ارقام الهواتف والأسماء.
لكن الاخطر من ذلك هو ذلك التحقيق الذي فضح فيه احد المستشفيات عندما ذهب إليه وقدم للطبيب تحليلاً قال انه لسيدة قريبة له ويرغب فحصه في المختبر. لتكون النتيجة مباركة الطبيب الذي قال له. مبروك النتيجة “حامل” ,مع ان الفايدي بشقاوته الصحفية هو الذي وضع التحليل منه في القارورة التي قدمها. وليس لامرأة!! ليكتب ذلك التحقيق الذي حذر فيه من عدم دقة التحاليل الطبية.
باختصار لقد رحل الصحفي الذي انفرد بمنهج مختلف في صناعة المهنة لسنوات طويلة. وعاش في صمت وحزن ليرحل في صمت. ظل يخفي خلفه “البوح” والصبر بعد إسدال الستار على مقالات كان يكتبها في نهاية المشوار تحت عنوان (كلام لا يهم أحد).. ليبقى محمد الفايدي يرحمه الله قصة تهم الكثير في ذاكرة الصحافة والناس والحياة.
Twitter:@NasserALShehry
[email protected]

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *