يقول الأستاذ الدكتور عبدالإله باناجه في كتابه (تاريخ جُدَّة من أقدم العصور حتى نهاية العهد العثماني): إن أغلب خلفاء وحكام دول العالم الإسلامي اعتمدوا على عنصر المماليك، بدءاً من العصر العباسي الثاني، وكان معظم هؤلاء المماليك من الخوارزمية والأتراك والمغول والتركمان، ويعد السلطان الصالح نحم الدين أيوب (637-647هـ)(1240-1249م)، أول من أكثر من شراء المماليك في مصر.
ومع سير الأحداث زاد نفوذ المماليك ولاسيما بعد أن بدأ الضعف يدب في صفوف الأيوبيين، لميولهم إلى حياة الترف، والبذخ، والانغماس في الملذات، وانشغلوا بقتال بعضهم البعض، حتى حرص كل واحد منهم على أن يكون لنفسه عصبة خاصة تكون سنداً له وعوناً، فأتاح ذلك للماليك الفرصة بأن يكون لهم كلمة، فكانوا هم القوة الفاعلة في إنهاء الصراعات بين الأمراء الأيوبيين، مما زاد من سلطانهم .
ويذكر الدكتور باناجه أن الصالح نجم الدين أيوب جعل من جزيرة الروضة مركزاً لهم فعرفوا باسم المماليك البحرية . ويقول أيضاً: إن سلاطين الأيوبيين اتخذوا من هؤلاء المماليك قوة يعتمدون عليها في تثبيت حكمهم والوقوف في وجه خصومهم وأعدائهم .
ويتحدث الدكتور باناجه عن المماليك البرجية أو الجركسية، فبين أن أول قدومهم إلى مصر كان في عهد السلطان قلاوون الذي أخذ في شراء طائفة جديدة من المماليك ترتبط به وتختص بالولاء له وتسمى المماليك السلطانية وتختلف في أصولها عن طوائف المماليك البحرية التي كانت ضد تعيين قلاوون واحفاده في السلطة، فأختار أن ينشئ فرقة جديدة من عنصر قوقازي الجنس أطلق عليه في المصادر العربية اسم الجراكس والشركس والشراكسة . وحرص السلطان قلاوون على الفصل بينهم وبين طوائف المماليك البحرية فأسكنهم في أبراج القلعة، أي في مركز إقامته، ليكونوا كالأسوار المانعة له ولأولاده وللمسلمين، ومن ثم أطلق على هذه الطائفة في التاريخ اسم المماليك البرجية .
بعد استقرار الدولة المملوكية في مصر وفي بلاد الشام توجهت أنظار سلاطينها إلى الحجاز لما يمثله من اهمية دينية حيث المقدسات الإسلامية، وكذلك لما للحجاز من أهمية اقتصادية نتيجة لإشرافه على عدد من الموانئ المهمة على ساحل البحر الأحمر – كجُدَّة وينبع – التي من خلالها ارتبط الحجاز اقتصادياً مع مصر منذ عصر صدر الإسلام .
ولقد تم ارتباط مدينتي مكة المكرمة و جُدَّة بالنفوذ المملوكي منذ عهد أبي نمي الأول عندما اعترف به السلطان الظاهر بيبرس سنة (667هـ/1268م) حاكماً منفرداً على مكة .
وخلال العهد المملوكي تلاشى أمر ميناء عدن وانصرف التجار عنه، فلم تعد ترسو بذلك الميناء طوال العام سوى سفينتين أو ثلاث من بلاد الهند والخليج العربي لبيع العمائم والمنسوجات القطنية، ثم تعود محملة بالصمغ العربي والبخور والصبر والفوه الذي يستخدم كصباغ كما يبين الأستاذ محمد صادق دياب – رحمه الله – في كتابه المهم (جُدَّة .. التاريخ والحياة الاجتماعية) .
ثم يبين الدياب، أن جُدَّة شهدت خلال عشرينيات القرن التاسع الهجري تطورات هائلة حولت مينائها إلى مرفأ عالمي، وأصبحت المراكب تفد مباشرة من الهند إلى ميناء جُدَّة، حتى بلغ عدد المراكب التي وفدت إلى جُدَّة مباشرة سنة 830هـ من الهند وهرمز أربعين مركباً.. ومنذ العام 835هـ سلك التجار الصينيون نفس الطريق، فاتجهوا بمراكبهم مباشرة إلى جُدَّة وهي محملة بالحرير الصيني والمسك وغير ذلك، وقد أغرى ذلك سلاطين المماليك أن يصبحوا شركاء لشريف مكة المكرمة في ما يحصل عليه من أموال العشور التي كانت تجبى من التجار كمكوس وخفارة وحماية .
ويبين الدياب أن سلاطين المماليك حققوا أرباحاً هائلة من احتكارهم لتجارة التوابل والبهار، فحظيت هذه المدينة من جراء ذلك بقدر كبير من اهتمامهم، فبنوا المساجد وحفروا الآبار .
ثم بين الدياب أن هذا الازدهار لميناء جُدَّة نتج عنه تهديداً من البرتغاليين ليس لجُدَّة وحسب بل وللبحر الأحمر ككل إذ أخذ البرتغاليون يأملون بعد افتتاح الطريق البحرية إلى الهند، مروراً برأس الرجاء الصالح أن يحتكروا المتاجرة بمنتوجات بلاد الهند التي كانت تتم عبر البحر الأحمر والخليج العربي، لذا كان اهتمامهم بمراقبة حركة النقل التجارية في المنطقة، فشيدوا حصناً في هرمز، وآخر في البحرين، وثالثاً في عُمان لمراقبة الخليج، وازداد تطلعهم بعد ذلك إلى مدخل البحر الأحمر فظهر اسطولهم سنة (919هـ – 1513م) أمام عدن بقيادة الفونسو دي البوكرك في محاولة للهجوم على المدينة، لكن الميناء المحاط بأسواره المنيعة أبدى مقاومة شديدة فاكتفى البرتغاليون بغرض المراقبة على مدخل البحر الأحمر . وقد انعكست أثار ذلك واضحه على حركة التجارة في البحر الأحمر وفي ميناء جُدَّة بصورة خاصة .
ويذكر محمد صادق دياب أنه من أبرز أحداث جُدَّة في عهد المماليك حرب كبيش وبناء سور جُدَّة .
ونظراً لأهمية هذا السور فسنورد له مقالاً خاصاً إن شاء الله .

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *