منذ الأزل أحاط الإنسان الأول مساكنه بأسوار تحميه من الحيوانات المفترسة ومن هجمات الغرباء الطامعين في ممتلكاته .والأسوار حول القرى والمدن قديمة قدم التاريخ , والحاجة إليها كانت دوماً ماسة ، خاصة قبل إختراع المدافع والطائرات وغيرها من أدوات الحرب الحديثة.
ولقد قام الصينيون قديماً بالبدء في تشييد السور العظيم الذي تم الانتهاء من بناء أول أجزائه أثناء عهد حكام ” تريكو صبحيو – تشانعو” مما مكنهم من حماية مملكتهم من هجمات الشعوب الشمالية .وحمايه لأنفسهم ومساكنهم وممتلكاتهم قام سكان مدينة جدة منذ الأف السنين ببناء أسوار حول هذه المدينة التاريخية وأحاطوا هذه الأسوار بخنادق كانوا يملؤنها بمياه البحر للزيادة في الأمان ، كما كانوا يشيدون الأبراج على أطراف هذه الأسوار .ولقد تم تجديد بناء سور جده عدة مرات على مر العصور من قبل أجيال مختلفة من أهلها كان آخرها عام 915هـ – 1909م .وسنلقي نظرة سريعة ومختصرة على تاريخ “سور جده” هذا السور الذي أحاط بالمدينة أوقاتاً ولم يكن له وجود أحيانا أخرى , ثم أعيد بناؤه لحمايتها حتى استطاعت جده في عام (1367هـ – 1947م) أن تستغني عن سورها وتتمرد عليه وتتوسع شمالاً وفي اتجاهات أخرى عندما بعد أن أراد الله سبحانه وتعالى أن يستتب الأمن في جزيرة العرب بعد تأسيس المملكة العربية السعودية هذا الكيان الكبير الذي أسسه وأمن طرقه جلالة المغفور له الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – رحمه الله- فأستغنت جده عن سورها وأصبحت آمنة مطمئنه ولله الحمد .وقبل أن نلقي الضوء على تاريخ سور مدينة جده قد يكون من المناسب أن نبدأ بتعريف السور في اللغة .يقول إبن منظور في لسان العرب:السور : حائط المدينة , مذكر .وينقل ابن منظور قول جرير عندما هجا ابن جرموز فقال :لما أتى خبر الزبير تواضعت  سور المدينة والجبال الخشعيقول ابن منظور: فإنه أنث السور لأنه بعض المدينة , فكأنه قال: تواضعت المدينة , والألف واللام في الخشع زائدة إذا كان خبراً كقوله:لقد نهيتك عن بنات الأوبر . وإنما هو بنات أوبر لأن أوبر معرفة . وجمع سور أسوار وسيران , وسرت الحائط سوراً , وتسورته إذا علوته , وتسور الحائط تسلقه (1) . ولقد ذكرت كتب التاريخ ” سور جده” بما في ذلك المصادر التاريخية القديمة والحديثة إضافة إلى ما كتبه بعض الرحالة العرب والمسلمون والغربيون وغيرهم عن هذا السور عندما شاهدوه خلال زيارتهم إلى جدة في فترات زمنية مختلفة .سور جدة في المصادر التاريخية:أولا: أدبيات الرحالة وكتاباتهم:لعل بعض أقدم المصادر التي تناولت تاريخ سور مدينة كان ما كتبه بعض أوائل الرحالة قدوماً إلى مدينة جدة . فعلى سبيل المثال نجد ان الرحالة العربي محمد بن أحمد المقدسي الذي زار جده في القرن الرابع الهجري عندما كان في طريقه إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج يشير في كتابه (رحلة المقدسي) إلى تحصين جده فيقول:جده : “مدينة على البحر , منه إشتق إسمها , محصنة عامرة أهله , أهل تجارات ويسار , خزانة مكة ومطرح اليمن ومصر ” (2). وبعد المقدسي بحوالي مئة عام نجد ان الرحالة المسلم ناصر خسرو علوي الذي قدم لأداء فريضة الحج ومر بمدينة جده (441هـ) في القرن الخامس الهجري أوائل القرن العاشر الميلادي (1050م) ووصفها وذكر سورها فقال: “جده: وجده مدينة كبيرة لها سور حصين تقع على شاطئ البحر , وبها خمسة الآف رجل , وهي شمال البحر ( الأحمر) , وفيها أسواق جميلة , وقبلة مسجدها الجامع ناحية المشرق , وليس بخارجها عمارات أبداً , عدا المسجد المعروف بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولها بوابتان إحداهما شرقيه تؤدي إلى مكة , والثانية غربية تؤدي إلى البحر ” (3) . ويبدوا أن المدينة قد صغرت وانكمشت وتهدم سورها نتيجة ظروف طبيعية واقتصادية وغيرها خلال المائة عام التي تلت زيارة ناصر خسرو علوي لها . لذا فإن الرحالة العربي ابن جبير الذي زار جدة في القرن السادس الهجري عام (578هـ) / (1082م) بعد حوالي مئة عام من زيارة ناصر خسرو لها قد وجدها بخلاف ما رائه ناصر خسرو فأعطى لنا وصفا للمدينة وسورها يختلف كثيراً عما قاله خسرو حتى ان ابن جبير قال عن جده: انها “قرية” يقول إبن جبير –رحمه الله- : “أما جُده فهي قرية على ساحل البحر المذكور , أكثر بيوتها أخصاص , وفيها فنادق مبنية بالحجارة والطين وفي أعلاها بيوت من الأخصاص كالغرف ,ولها سطوح يستراح فيها بالليل من أذى الحر . وبهذه القرية آثار قديمة تدل على انها كانت مدينة قديمة , وأثر سورها المحدق بها باق إلى اليوم (4). إذاً فإبن جبير يذكر أنه رأى في القرن السادس الهجري أثر السور الذي كان مبنيا وشاهده كل من المقدسي وناصر خسرو في القرنين الرابع الهجري والخامس الهجري عندما زارا جده مما يؤكد رواية كل منهم .    وفي القرن السابع الهجري قدم الرحالة المسلم إبن المجاور إلى جده ورسم لها أقدم خريطة معروفة وما زالت هذه الخريطة موجودة (يوجد ذكر لخرائط أقدم من خريطة ابن المجاور الا انها فُقِدت ولم تكتشف الى اليوم).وتحدث ابن المجاور عن سور جده القديم وقال: أن الصحابي الجليل سلمان الفارسي -رضي الله عنه- هو وأهله كانوا قد بنوا هذا السور حول جده عندما سكنوا جده . ولكن ابن المجاور لم يذكر أنه شاهد سوراً حول جده في وقت زيارته لها في القرن السابع الهجري مما يؤشر إلى أن وضع السور المتهدم لم يتغير منذ زمن ابن جبير في القرن السادس الهجري وحتى زمن زيارة ابن المجاور لجده بعد ذلك بمائة عام تقريباً. والوضع نفسه ينطبق على ما قاله ابن بطوطه أشهر الرحالة الذي زار جده عدة مرات احداها عام 727هـ في القرن السابع الهجري ولم يأت بذكر لسور يحيط بالمدينة بالرغم من أنه قال : أنه أقام بجده ” نحو أربعين يوم” (5) . مما يشير إلى أن أهل جده لم يعيدوا بناء سورها حتى زمن تلك الزيارة على أقل تقدير . ويبدو أن مدينة جده بقيت دون سور يحيط بها لفترة طويلة . فعندما جاء الإيطالي لودفيكو دى فاريتما بعد ابن بطوطه بأكثر من مائتي عام وزار جده عام (1503م) الموافق (908هـ) لم يكن هناك سوراً حول جده .وقد قال دي فاريتما عن هذه المدينة واصفاً إياها :”لا يحيط بجده سور ، وإنما هي محاطة بمنازل في غاية الجمال ، كالمعتاد في إيطاليا ” (6) . ويكاد يكون لودفيكو دى فاريتما آخر من ذكر من الرحالة (حسب تاريخ الوصول إلى جده) أنه لا يوجد حول المدينة سور . ويتطابق ذلك مع الزمن المعروف لبناء السور الأخير حول جده ، إذ تشير المصادر التاريخية إلى أن هذا السور تم بناؤه في عام (915ه)ـ الموافق (1509م) (7) أي حوالي ستة سنين بعد تاريخ زيارة لودفيكو دى فاريتما . وسنفرد جزئاً كاملاً إن شاء الله من هذا المقال للحديث عن بناء سور جده الذي شيده الأمير حسين الكردي بأمر من السلطان المملوكي قانصوه الغوري للدفاع عن جده من الغزو البرتغالي الذي كان مرتقباً في ذلك التاريخ . ولأن الرحالة الدنماركي كارستن نيبور جاء إلى جده عام 1762م أي بعد بناء السور بحوالي قرنين ونصف وقبل هدمه بحوالي قرنين فإنه شاهده وتحدث عنه بل وقال أنه حدد موقعه . يقول نيبور عن رسمه لخريطة جده :”رسمت خارطة هذه المدينة ومحيطها على اللوحة (IV) لكن لابد من الإشارة إلى أني لم أقس إلا الجزء الواقع من جهة البحر ، ولم يكن بإمكاني أن أجول في المدينة كلها كما ذكرت سابقاً . لكني حددت موقع جزء من السور ، وعددت من بعيد خطى عربي رأيته يمشي قرب هذا السور “(8) .وعندما وصل أول أسباني يزور جده وهو الرحالة دمنجو باديا الذي سمي نفسه (علي بك العباسي) عام 1806م إلى هذا الميناء البحري العريق في طريقه إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج أقام في جده فترة من الزمن وذكر أنه كان يقطن في هذه المدينة (مدة زيارته) حوالي خمسة آلاف نسمة . ووصف المدينة وأسواقها وتحدث عن أهلها ومساكنهم وطباعهم وغير ذلك متحدثاً عن المدينة داخل وخارج السور . يقول باديا : ” يوجد خارج أسوار المدينة من ناحية اليابسة تجمع كثير من الأكواخ المأهولة بالسكان بكثافة ” (9) .وبعد زيارة علي بك العباسي إلى جده بحوالي ثمانية أعوام وصل إلى جده أول رحالة سويسري يزورها وهو الرحالة الشهير جون لويس بيركهارت قادماً من مصر عام (1814م) .وقد قام بيركهارت خلال الأربعين يوماً التي مكثها في جده بتسجيل مشاهداته عن هذه المدينة وأسواقها وأهلها ومساكنهم وعاداتهم وطبائعهم كما وصف أعداد الدكاكين والمحلات التجارية والمقاهي والخدمات وغيرها وسجل كل ذلك تسجيلاً تفصيلياً ربما كان غير مسبوق . لذا فإن رحلة بيركهارت إلى جده (وغيرها من مدن ومحطات الحج) تعتبر إحدى أهم الرحلات المسجلة إلى هذه المدن المختلفة وقد ضمن كل ذلك في كتاب معروف عن رحلته .    وقام بيركهارت بوصف سور جده وتحصيناته وصفاً دقيقاً.   ويخبرنا بيركهارت أن السور الذي بناه حسين الكردي عام (915هـ) بأمر السلطان قانصوه الغوري كان قد تهدم ودمر تقريباً وأن السور الذي رآه بيركهارت كان قد بني بأيدي سكان جده قبل عدة سنوات من زيارته للمدينة عام (1229هـ/1814م) . أي أن هناك سور آخر تم بناؤه حول جده مما يعني أنه كان قد بُني لجُده أربع أسوار على الأقل منذ السور الذي قيل أن الصحابي سليمان الفارسي -رضي الله عنه- هو وأهله كانوا قد بنوه قبل الإسلام عندما استوطنوا جُدة  . وقال عن هذا السور الجديد : ” أما بنية الحائط الحالية فإنها تعتبر حاجزاً كافياً للعرب الذين لا يمتلكون أي مدفعية ” . ويصف بيركهارت السور ومنشآته فيقول : ” وقد تم تدعيم الحائط عند كل أربعين أو خمسين خطوة لدعم وزيادة وسائل الدفاع وقد حُفر خندق ضيق على طول إمتداد السور . وهكذا ، تتمتع جده بشهرة في جزيرة العرب بأنها قلعة حصينة منيعة . ويقف الحائط القديم على الشاطيء بمواجهة المدينة لكنه في حالة متداعية . ويقع قصر الحاكم عند الطرف الشمالي ، قرب النقطة التي يتلاقى فيها الحائط الجديد مع البحر ، وعند الطرف الجنوبي قلعة صغيرة مجهزة بثماني أو عشر بندقيات . فضلاً عن ذلك ، هناك بطارية مدفعية لحراسة مدخل المدينة وحمايته من جهة البحر وللسيطرة على الميناء بأسره ، وهنا أيضاً نُصِبَ مدفع قديم ضخم عليه ” كُلَّيه” تزن خمسمائة باوند ، وهي من الشهرة بمكان في منطقة البحر الأحمر كلها بحيث إن شهرتها هذه فقط تُعد حماية لمدينة جده .  ويبين بيركهارت أنه كان لجده من جهة البر بوابتان وهما باب مكة في الجنوب الشرقي وباب “المدينة” في الجانب الشمالي . وقد أغلقت مؤخراً بوابة صغيرة في الحائط الجنوبي . كما أن المنطقة المحاطة بالحائط الجديد (ويبلغ محيطها نحو ثلاثة الاف خطوه) وبالبحر لا تكثر فيها الأبنية(10) .وفي عام (1834م) قدم الرحالة موريس تاميزييه والذي يعتقد انه كان أول فرنسي يزورها , وقدم لنا تاميزييه في كتابه (رحلة في بلاد العرب ) وصفا دقيقا ومفصلا لجده كما شاهدها ولسورها الذي رآه. يقول تاميزيية واصفا سور جده والتحصينات التي كانت به: “اما السور الذي يحيط بالمدينة , فقد كانت تتخلله القلاع , التي تختلف حالتها من واحده لأخرى , والتي كانت الأجزاء الرئيسية منها مدعومة ومحصنة بقطع المدفعية .  وقد شيدت إثنتان من القلاع وكانتا شبه جيدتين عموما ، في كل طرف من اطراف الميناء الرئيس . وقد شيدتا خصيصا بغرض استغلالهما في مراقبة أمن الميناء وحمايته وسلامته وقد تمت تعلية القلعة الواقعة في وسطهما حديثا وفي الفترة الأخيرة , كما أن هناك سورا عمليا يقوم على إمتداد الرصيف الخاص بالميناء يصل الى ذلك الواقع في الناحية الشمالية . وتتخلل هذا السور أربع بوابات تطل على البحر , وهو بذلك يقوم بتكملة نظام التحصينات الخاصة بمدينة جده كلها ” (11). اما الرحالة شارل ديدييه ثاني الفرنسيين قدوما الى جده , والذي زارها عام 1854م فقد رأى السور المحيط بجدة وتحدث عنه ووصفه بإيجاز وتحدث عن بعض أعمال الصيانة التي كانت تُجري على السور . يقول ديدييه :”والمدينة محاطة من الجهة الاخرى بسور سميك , مرتفع بما يكفي , مصان صيانه جيدة , مسبوق بحفرة عميقة , وعليه أبراج في حاله جيدة”(12) . وبعد رحلة ديدييه قدم الى جده فرنسي آخر ، حيث زارها الرحالة جيل –جرفيه كورتلمون عام (1890م) وترك لنا في كتاب عن رحلته أحد أوسع الاوصاف للمدينة ورسم جزئا من السور المحيط بها وضمن هذه الصورة في كتابه وقال عن جده:”إنها محاطة بسور قوي”ولكنه قال أيضا:” إلا أن هناك فتحات تنتشر هنا وهناك على طول السور المهترئ , وخاصة في الجنوب الشرقي حيث توجد بعض الأحجار المنثوره على الأرض كأثر على المكان الذي كان يوجد فيه سور المدينة قديما (13).  ولرؤية “سور جده” بأعين عربية فإننا سنستعرض حالة السور والمدينة بحسب وصف الرحالة العربي ” البتنوني” الذي زار جده عام (1909م) في معية خديوي مصر (عباس حلمي باشا الثاني)وكتب كتابا عن رحلته تلك, ووصف فيه المدينة ومنشئاتها وسورها . يقول البتنوني واصفا سور جده في كتابه: “يحيط بجده سور له خمسة أضلع . فالغربي منها على البحر وطوله 576مترا , والشرقي الجنوبي 315متراً ، والجنوبي 810متراً . وهذا السور بناه السلطان الغوري ملك مصر في سنة (915هـ) لمنع الافرنج الذين كانوا ابتدئوا في استعمار الشرق من طلوعهم إلى جده وقد أفاد فائدة تذكر في منع البرتغاليين من الدخول إليها في سنة (948هـ) وأصلتهم قلعتها هذه الصغيرة ناراً حامية فروا منها إلى مراكبهم تاركين ما كان معهم من الذخائر”(14) . وقبل هدم سور جده بحوالي عشرة أعوام زارها الطبيب اللبناني الدكتور عبدالغني شهنبدر على رأس بعثة حجاج طبية لبنانية عام (1936م) ووثق رحلته في كتاب مختصر سجل فيه مشاهداته عن جده وأهلها كما تحدث عن سورها فقال: “وهي (جده) أمام سواكن الأفريقية تقريبا محاطة بسور قديم له أبواب سته وهي ، باب المدينة ، وباب مكة ، وباب الشريف ، وباب البحر وباب المغاربة ، وباب الشهداء” (15). هكذا بدى سور جده للرحالة الذين شاهدوه ووصفوه لنا أو غاب عن الذين زاروا المدينة في أوقات وأزمنة كان السور متهمدماً فيها فوثقوا ذلك وبينوا أنه لم يكن لجده سور يحيطها إبان زيارتهم لها .

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *