بلد البوليس .. والتيوس
كانت المرة الأولى التي أزور فيها اليونان في مهمة صحفية من قبل الشرق الأوسط التي عملت فيها لفترة قصيرة بعد مغادرتي عكاظ التي عملت فيها لفترة هي الأخرى لمدة تزيد على عشر سنوات.
وفي العاصمة اليونانية (أثينا) لم يكن الحال أفضل منه في أنقرة وما حصل في فندق (ديدمان) الذي نجوت فيه من حادث القنبلة التي ضربت مدخل الفندق، وهو ما تحدثت عنه في مقالي السابق، عن تلك الفترة التي تمتد إلى ما يقرب من 29 عاماً كان الصراع مازال قائماً بين كل من تركيا واليونان حول بحر (إيجة).
وكان لكل بلد ظروفه المختلفة التي لابد أن تصاحبها هواجس أمنية وسياسية متعددة. كان الوقت قبل منتصف الليل في بهو فندق (بولن بلس) الذي كنت أسكن فيه وهو فندق من الدرجة الأولى يطل على البحر.. طلبت فنجانًا من القهوة التركية، وكأن حادثة أنقرة ستعود لي مرة أخرى ولكن بطريقة مختلفة.
النادل أحضر لي ما طلبت، ثم نظر إلي باستغراب شديد وحدق بعينيه نحوي ليسرع بالتقاط رصاصة كانت بجواري على نفس المقعد لم أتنبه لها.. ثم غادر مسرعًا.. ليعود ومعه اثنان من حرس الأمن للفندق.. طلبوا مني جواز السفر .. أخذوني إلى مكتب خاص بالأمن.. قاموا بتفتيشي.. سألوني: من أين لي هذه الرصاصة .. وما هو الهدف من حملها.. أجبتهم: إنني لم أشاهدها ولم أكن أحملها.. سألوني ما إذا كان أحدٌ يجلس معي، فأجبتهم بالنفي.. وهنا بدأ الهرج والمرج.. وبدأت في حالة ذهول.
اليونان في تلك الفترة كانت قد شهدت عدة حوادث أمنية، فهل سيدخلونني في دوامة الشبهة؟ يا للهول. وما هي إلاَّ لحظات حتى جاء رجل أمن فلسطيني مسلح، كان مرافقًًا للسيد ياسر عرفات ـ يرحمه الله ـ والذي كان في زيارة لليونان في ذلك الوقت، وقال: إن رصاصة قد سقطت من مسدسه، ويشك في أنها كانت على المقعد الذي جلس عليه في صالة الفندق.
سألوه عن المقعد فأخذهم إلى مكاني الذي أخذوني منه، عندها قارنوا الرصاصة مع بقية ذخيرة مسدسه فكانت من نفس النوع ليقوم الأمن بتسليمه الرصاصة المفقودة، ويعتذروا لي، في حين شكرت رجل الأمن الفلسطيني الذي لو لم يحضر في الوقت المناسب لدخلت في دوامة تهمة لا علاقة لي بها .. ولكني دعوت عليه بعد أن غادر عائدًا إلى غرفته بالفندق.. أما أنا فقد عدت للجلوس في مقعد آخر، ومازال الرعب يتملكني.. أحضروا لي فنجانًا من القهوة. قالوا إنه مجانًا. يعني ضيافة أو بدل ضرر!! وقبل أن أتناول فنجان القهوة دخل حارس «كنيسة» مجاورة محتجًّا بأعلى صوته، عرفت أنه يشكو من شخص بملامح عربية دخل الكنيسة وتبول فيها ثم هرب مسرعًا إلى الفندق.. ولسوء حظي كنت العربي الوحيد في بهو الفندق.. عندها تركت القهوة لأصعد إلى غرفتي قبل أن يتهموني مرة أخرى.. ومع ذلك لم أسلم.. فقد طرق الباب أحد العاملين في الاستقبال، وهو من أصل عربي سألني عمَّا إذا كان لي زميل يسكن في الفندق، والملابس التي حددوها، فأجبتهم بالنفي.. وأغلقت الباب بقوة في وجوههم صارخًا بصوتي خلاص زودتوها يا أولاد الـ ….
كان من الصعب أن أنام بعد كل هذا السيناريو العجيب .. تذكرت أن في حقيبتي كتابًا ترجمه إلى العربية الأستاذ الأديب الراحل أحمد الشيباني ـ يرحمه الله ـ عن الأيام الأخيرة في حياة الفيلسوف سقراط الذي ترك قانونًا للحضارة اليونانية.. وناضل حتى مات بموجب مادة من القانون الذي وضعه .. وأخذت أتصفح الكتاب الذي نقل فيه أستاذنا الشيباني عن (كريتو) صديق سقراط الذي قضى معه ليلته الأخيرة في السجن قبل ساعات من إعدامه في اليوم الثاني. حيث أعطيت لسقراط حرية اختيار ما يريده من المتعة لقضاء آخر ليلة من عمره في اليونان .. وكان له ما أراد واحتفل على طريقته الخاصة.. وكانت ليلة ماجنة.
عندها وضعت الكتاب جانبًا.. وقلت في نفسي كيف يتفق القانون والمجون والقتل في مشهد واحد؟.. إنه بلد الرعب الذي اعتقل وقتل رجلاً صنع تاريخ الإغريق، فكيف يكون الحال لرجل أجنبي بسيط مثلي جاء من صحراء الشرق للمرة الأولى ليرى حضارة أمة شغلت التاريخ لفترة طويلة من الزمن؟.. ليجد نفسه أمام (بلطجة) الابتزاز الذي يحكمه (قانون الليل) بلا رقيب لأرحل في اليوم الثاني وفي ذاكرتي فقط لذة لحم (التيوس) التي يتفنن اليونانيون في (شيِّها) كاملة على الصاج.. ورعب أولئك الحراس الذين أمطروني بالأسئلة، وتختفي كل جزر (جليفادا) الجميلة وسحر الطبيعة وتبقى في ذاكرتي فقط صورة بلد يتميز بالبوليس ولحم التيوس!!.
[email protected]
Twitter:@NasserAL_Seheri
التصنيف: