استجواب الأرشيف

يوميات حاج على ثرى مكة والمشاعر والمدينة (3)

يواصل ذلك الحاج في طرح ذكرياته في أيام الحج .. فبعد ان متع خافقه بتلك المشاهد الطاهرة وعاش في روحانية باذخة . ها هو يذهب الى هناك .. حاملا ذلك اللقب الجميل – يا حاج.

(11)
•• هذا جبل أحد، هذا جبل الرماة.. ياه.. هنا دارت المعركة الشهيرة وهنا كانت أول مخالفة عسكرية في الإسلام لتعلمنا أن المخالفة والاختلاف سبب رئيسي للهزيمة.
أصوات صهيل الخيل وصليل السيوف تملأ أذنه.
شده ذلك المنظر.. أغمض عينيه وهو يقف مكان مصرع حمزة. ها هي تبقر بطنه تلوك كبده، ما هذا!؟ إنه “الحقد” يا له من حقد.
عاودت الحافلة رحيلها، هذا موقع غزوة الأحزاب أو الخندق تلك الفكرة التي نبتت من ذلك الباحث عن الحقيقة “سلمان” الذي أشار إلى حفر ذلك المانع الكبير: ها هو صلوات الله عليه يشارك في الحفر وأصوات ارتجازاتهم تأتيه من البعيد.
بسم الله وبه بدينا
ولو عبدنا غيره شقينا
حبذا ربا وحبذا دينا
توقف على ذلك الجبل هذا مسجد الفتح دخل إليه أدى ركعتي تحية المسجد امتطى “الحافلة” هذا مسجد القبلتين كان يتابع حركة السيارات والناس من خلف زجاج الحافلة وهي تقطع الطريق من “العناس” مرورا “بالمناخة” صعودًا إلى قباء حيث أول مسجد بني في الإسلام. ترجل من “الحافلة” راح يقلب في بعض المعروضات أمامه على الرصيف. توقف أمام المسجد أصابه شيء كأنه “الارتعاش” أخذ يتلمس مواقع “الخطى” أدى ركعتي تحية المسجد، وانتقل قافلا إلى “الحافلة” وضع جبهته على ظهر المقعد الذي أمامه: أخذته “غفوة” تنبه على صوت رفيقه وهو يقول له: ها.. لقد وصلنا هبط من الحافلة وهو يكاد لا يصدق ما شاهد من مواقع كانت مفصلية في التاريخ.
عاد إلى سكنه وضع رأسه على وسادته وأحلام العودة تسكنه، غدًا الرحيل إلى بلاده وشيء في داخله يمنعه من الرحيل.. لكن هيهات له ذلك.
(12)
•• كان ذلك الصباح غير “الصباحات” الأخرى ها هو يودع هذه الأماكن التي سكنت في مسامه، أخذ يرمق الشارع الممتد تحت نظره من خلال النافذة التي يقف عليها، لمح على الطرف الآخر “الحافلة” تقف في شموخ و بعض الرفاق يتحلقون حولها دافعين بحقائبهم إلى أعلاها، مسح شيئا كأنه الدمع انساب من عينيه، كان يقف وأمامه على امتداد نظره – القبة الخضراء – تعلق نظره بها، سرعان ما هبط من الدور الرابع، كان يقفز درجات السلم.
وقف أمام الباب تمتم ببعض الأدعية دخل إلى المسجد: صلى ركعتي تحية المسجد كانت الروضة لا يزال الزحام لم ينته بعد، بصعوبة أخذ يشق طريقه إلى المواجهة الشريفة، وقف أمام القبر الشريف، قال كلامًا كثيرًا في نفسه تحول إلى “القبلة” راح يدعو الله بمزيد من الإيمان والثقة.
عاد إلى مسكنه، أخذ “حقيبته” على كتفه، كاد أن يصطدم بعامود الكهرباء لالتفاته المتكرر إلى الخلف مودعا هذا المسجد الشريف، تناول منه أحد رفاق الرحلة الحقيبة دسها بين بقية الحقائب، لفه سكون غريب وهو على مقعده في الحافلة، كان يتابع حركة الناس في الشارع الذي بدا له طويلا أكثر مما هو عليه في الواقع.
تذكر أمه وأبناءه و “صديقه حسن” الذي لم يفارقه منذ صغرهما، تحسس “كيس النايلون” الموجود تحت قدميه، هذه السبحة “لحسن” انه يحب أن يمسك بها في يده، أغمض عينيه، كان صوت صغيرته يتردد صداه في تجويف صدره “بابا” هات لي هدية، ضحك تذكر شقاوتها وقفزها على أكتافه وهي تشد شعره تحسس رأسه، لا شعر فيه لقد قصه في منى. ابتسم وغفا.
(13)
•• كان المطار مليئاً بالمسافرين والقادمين، أخذ مكانه على أحد المقاعد المتناثرة، وهو يتابع ما يدور أمامه من حركة، أصوات الناس تتداخل الكل يريد أن يحصل على كرت صعود الطائرة، يا حاج بالدور كان الصوت ضخما، لا أحد يستمع إليه يا حاج قلنا بالدور.. لا أحد يستمع إليه أبدًا.
شد انتباهه بجسمه الضخم، بدا له شخصية كريكاتورية القميص مفتوح.. والحزام ساقط إلى أسفل وبدى بطنه ظاهرًا بينما ربطة عنقه مشدودة كأنها حبل مشنقة حول رقبته.
أتاه صدى صوت سمعه عند باب البقيع ينشده أولاد صغار.
فاطمة يا فاطمة
فاطمة بنت النبي
خذي كتابك وانزلي
واقري علي صدر النبي
ياه.. بذلك النغم الذي يذوب في داخله، وبجانب ذلك أولئك الذين كانوا يمدون أيديهم صائحين شرابهي.. شرابهي.
لم يفهم ماذا يعنون بذلك لكنه ارتاح عندما عرف ما يقال للهنود.
شرأي أرمي. بهي أي يا أخي.
أخرجه رفيقه من سرحانه عندما قال له مادا إليه بكرت صعود الطائرة، أمسك الكرت، وقف في الصف الطويل أمامه، رائحة العرق مع رائحة التوابل. انفلتت “رائحة” فظيعة وضع يده على أنفه، الصف يتحرك في بطء شديد هكذا بدا له، بعد عناء حسبه طال دخل الطائرة ليواجهه صف آخر، كان يلاحق حركة المطار من خلال النافذة الزجاجية.
أخيرا وصل إلى مقعده وضع “الكيس النايلون” تحت قدميه، ربط الحزام وراح يقرأ ما يحفظ من آيات القرآن الكريم مغمضاً عينيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *