إن العالم يتغير …قلب جدة يحترق ..

زين امين

ولدت امي وعاشت هناك ..وانا ولدت وعشت هناك ..فتحت الحرف في كتاب الشيخ علي هلال ..وتلقيت تعليمي الابتدائي هناك ..تكون وجداني هناك وتشكلت هويتي هناك ..حياتي كلها كانت بين ازقتها وحواريها وبيوتها المبنية من الحجر المنقبي والرواشين الخشب وتحت بيوتها الصهاريج ..انها ذاكرة وطن وذاكرة امة ..واليوم ونحن نري كيف تنهش الحرائق بطون مدينة كاملة .. مصنفة تاريخيا وتراثيا في اليونيسكو ..لا مثيل لها في الدنيا.. هل هناك جحود اكثر من هذا؟ ؟! ..هل هناك جهل واستهتار اكثر من هذا؟ ؟! .. لا استطيع ان اقول الا ان غياب الوعي والجهل والعجز الذي يكتنف بعض من هم مسؤولون عن حماية هذا التراث العظيم.

البارحة قضيت ليلتي وانا مفنجل العينين ..! لم انم؟ ! اتخيل كيف كان هذا الجزء الحبيب من وطني ..وكيف اصبح بسبب الاهمال والعجز واضمحلال الارادة والقدرة علي فعل شئ ناجز يسجله التاريخ لكل مسؤول تبوأ منصبا للحفاظ علي هذا التراث الانساني العظيم والذي اعترفت به هيئة اليونيسكو العالمية.

البارحة تساءلت ..كما اتساءل على الدوام ..لماذا نفشل ونغرق في شبر ماء عندما نبحث عن حلول لمشاكلنا؟ ؟ كل امم الدنيا فقيرها وغنيها ..واجهت ما نواجهه من تحديات ..ولكنهم استطاعوا ان يجدوا الحلول الناجعة ويطبقوها وينجزوها ..!! الا نحن ..؟ نتشبث بمحاولاتنا الدائمة عل اعادة اختراع العجلة.. ويحلو لنا ان نقف في مكاننا في انتظار الهام او معجزة من السماء ..ولكن هيهات! !.

بعد انتهاء الحرب الاهلية في لبنان ذهبت الي بيروت والتي كانت اطلالا وخرابات تسكنها الغربان والخفافيش وترتع بين ركامها الكلاب والقطط الضالة. وما هي الا بضعة سنوات قليلة حتي اضحت بيروت الاطلال اثرا بعد عين وبالذات وسط المدينة ..والتي اصبحت بعد ذلك معلما سياحيا بمقاييس عالمية يشار اليه بالاعجاب لان يد البناء والتعمير من ذوي العزيمة والاصرار والارادة والاخلاص طالت تلك المنطقة وأعادتها الي رونقها وجمالها واصالتها وتاريخها دون تشويه او انتقاص انها تجربة انسانية معمارية فريدة من نوعها وتطبيقها كان يتطلب عزيمة وابداع الانسان القادر علي فعل المعجزات وليس انتظارها ..

وبعد هذه الحادثة التي تدمي القلب ..
حريق قلب جدة ..اوجه صرخة عالية الي الضمائر الحية .. الي كل مسؤول. الي كل قادر ..والي كل متنفذ .. والي كل العقول الواعية ..الي من يريد ان يسجل اسمه باحرف من ذهب في سجل التاريخ والوفاء لهذا الوطن ..ولهذه المدينة العريقة بتراثها ..وتاريخها .. واحداثها .. ساضع امامكم.. وبجهد المقل .. بعض التوصيات والافكار والاقتراحات والتي تشكل عصب المستقبل للحفاظ علي بقايا منطقة جدة التاريخية ..
** تكوين مجلس امناء من رجالات وسيدات المجتمع الجداوي للاشراف علي وضع الخطط والتنظيمات والتصميمات الهندسية لاعادة تأهيل المنطقة وبث الروح الانسانية التي تليق بها وبتاريخها.

** تكون مهمة مجلس الامناء جمع التبرعات والمساهمات من كبار التجار والمؤسسات والشركات والبنوك والسكان من المواطنين الغيورين علي ثروات وطنهم من جدة وغيرها من مدن المملكة.. لانشاء وقف عملاق يدر موارد مالية لاعادة البناء والتاهيل للمنطقة وصرف التعويضات العادلة لاصحاب المساكن وغيرهم من الملاك.

** والمهمة الثالثة لمجلس الامناء هو الاستعانة بجهة استشارية عالمية بمساعدة اليونيسكوا لوضع تصور لتطوير المنطقة بناءً علي المعطيات الجديدة.

** انشاء مركز توثيق وطني عالمي عند مدخل المنطقة يهتم بوضع الخرائط التفصيلية الهندسية بالرفع المساحي للحواري والازقة والمعالم التاريخية وأشكال المباني المميزة بتصاميمها قبل ان تتعرض للاختفاء او الانهيار بعوامل الزمن والتعرية.

** عمل موسوعة تاريخية مصورة تحكي الادوار الوطنية والتاريخية التي لعبتها الاسر والمباني والتي اثرت وغيرت الحياة الاجتماعية والسياسية والتاريخية عبر العصور المختلفة.

** تنفيذ خطة عاجلة وفورية لرفع الأنقاض وتنظيف المنطقة وعمل بعض الترميمات الضرورية وتوظيف وسائل الامن والسلامة في المباني لحين تنفيذ الخطة المتكاملة للتطوير.

** اخلاء المنطقة فورا من سكانها وقاطنيها ومستودعاتها ..وفصل الكهرباء عنها ووضع سور افتراضي حولها يمنع الدخلاء من الولوج اليها واستباحتها اوكارا لهم. رب من قائل ان هذا امر يصعب تنفيذه ..ولكن ازعم اننا نحن في حالة طوارئ ..وليس علي المضطر الا ركوب الصعاب.

** يجب ايجاد الصيغ القانونية التي تتيح للدولة ان تستقطع الارباح التي تجنيها البنوك علي الودائع التي لا يتقاضي اصحابها فوئد او ارباحاً عليها مساهمة من البنوك في المسؤولية الاجتماعية للوطن في جميع ارجائه.

يا سادة .. اعلم ان هذه مهمة شاقة ومعقدة ولكنني أرى ان الحل هو سعي مجلس الامناء في استصدار قرارات سيادية من خادم الحرمين الشريفين كما هو معمول به في المشاريع الأخرى والتي تهم الوطن والصالح العام .. تنفيذ هذه القرارات وغيرها يتطلبها اعادة اعمار المنطقة ..وبدون ذلك فانا ازعم ان اي جهد سيذهب ادراج الرياح ..وتذكروا ان المتبقي من بيوت جدة التاريخية فقط 600 بيت .. ولا تنسوا اننا امام لحظة الحقيقة مع انفسنا ومع التاريخ ومع الاجيال القادمة ومع اليونيسكو والرأي العام العالمي. وتذكروا ..

ان العالم يتغير وبسرعة ..

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *