كانت الحياة قديماً فيها من الجدية و الصرامة ما يجعل الأبناء ينضجون سريعاً ولا غرابة، فسخونة العقاب تنضج الذهن وتجعله يتحاشى العقاب أو أن يبتكر طرقاً للإفلات من العقوبة. وكلا الحالتين نضجٌ مبكّر.
كانت جميع البيوت أو معظمهما تتبع تقسيماً إدارياً متشابهاً. حقيبة المدعي العام كانت بيد الأم أو الجدة وقد تكون مناصفة بينهما. أما حقيبة القضاء فهي بيد الأب. و أخيراً التنفيذ وهذا أيضاً بيد الأب ولكن في بعض الحالات يسند التنفيذ إلى الأخ الأكبر (البكري) وهذا مايعرف بالتدريب على رأس العمل أو على رأس الضحية.
أما في حالة ورود شكوى أو دعوى خارجية من أي مصدر وليكن راعي الدكان. ففي هذه الحالة يختزل الأب كل المناصب الإدارية في واحد ويفاجئ المدعى عليه بدخول الأب ونزول العقاب على مناطق متفرقة ونسأل الله أن يعم بنفعها سائر أنحاء الجسد.
بالنسبة لأدوات التنفيذ، ففي الغالب هي الخيزرانة التي تغنى بها كثير من المطربين وتراقصنا جميعاً على إيقاعها. ولكن أحياناً يكون الكف أداة أو العقال. وهناك أدوات عقاب نسائية بيد الأم والجدة، مثل مروحة اليد أو أجلكم الله فردة الحذاء الطائر. وهذه الأدوات الأخيرة تستعملها النساء مع الصغار والبنات أو في حالة أن الأمر لا يستدعي الشكوى للأب.
تبدأ أي قضية بسرد المدعي العام للواقعة وعادة مايختم سعادة المدعي العام مرافعته بالقول “أنا خلاص تعبت، شوف لك صِرْفة معاه” وهذا الجملة تعني طلب العقوبة المغلظة.
أما توقيت عرض الشكاوي فهو عنصر مهم من عناصر القضية. فإذا كان الجرم كبيراً أو إذا أُريد بالمدعى عليه شراً، فتعرض القضية حال وصول الأب ظهراً إلى البيت وهو عائد من عمله جائعاً مرهقاً متعباً من العمل والحر فيصب جام غضبه على المدعى عليه. أما في حال أن القضية لا تتطلب ذلك أو تتطلب بعض الحكمة فقد يؤجل عرضها إلى وقت أقل سخونة ويظل المتهم مرهوناً على ذمة القضية ويظل يتوسل ويردد خلاص أتوب إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
طبعاً، في المحاكم المنزلية، لا يوجد تحقيق أو محامي ولا نطق بالحكم ويتم الإنتقال مباشرة إلى تنفيذ العقوبة مباشرة والعقوبة لا تنتهي إلا بتحول المدعي العام إلى محامي حين تنبعث عواطف الأمومة لديها فتحاول أن تحول بين الجلاد والضحية فإذا كان الجلاد عنيفاً قد ينالها بعض العقاب.
أما في حالة أن الإدعاء مقسوم بين الأم والجدة فهنا تأتي الثغرة التي يحاول الكثير من المدعى عليهم الإفلات من العقوبة من خلالها. يلجأ المدعى عليه هنا للطرف الآخر ويوكله للدفاع عنه وإذا كانت الجدة تعيش بمفردها في بيت منعزل فالهروب نص المراجل ويلجأ هناك إلى أن تأتي السلطات المنزلية بطلبه. طبعاً الجدة لا تسلم المدعى عليه إلا بعد أخذ كل الضمانات من الأب بأن يعفو عنه. وينتهي الموضوع بأن تقسم الجدة بالأيمان المغلظة بحرمان ذلك اللاجئ من نعمة اللجوء إليها إن أعاد الكرة و تؤخذ عليه جميع التعهدات. ويتعهد المدعى عليه بألا يعاود الكرة وتتم بعدها إجراءات الإفراج مع أن الجميع يعلم أنه لن يفي بوعده ولن تكون هذه المرة الأخيرة.
هذا ما كان في معظم بيوتنا السعيدة، أما المدارس، فكانت أشبه بثكنة عسكرية لا مجال فيها للخطأ أو حتى لنية إقتراف خطأ أو التفكير فيه. فجميع من في المدرسة من المدير إلى الفراش كانوا يحملون رخصة في القانون وتفويضاً بالعقوبة في أي وقت دون تحقيق أو إدعاء أو محاكمة. فمن الممكن أن يتلقى أي طالب صفعة على وجهه بكف يعادل نصف جسمه مساحة ووزناً لأي سبب وقد يكون سبباً تافهاً. وكان معظم منسوبي المدرسة يتسلحون بالعصي لذلك لا مجال هنا لأن تخلص من العقوبة ولكن ماذا عن المتعة والترفيه واللهو البرئ.
لا يمكن أن تقضي معظم النهار في هكذا أجواء دون أن تحصل على بعض المتعة. هناك بعض الحلول، الحل الأول أن تخطط وتسند الأدوار و تكتفي بالفرجة فتحصل على براءة الذئب من دم إبن يعقوب. وهذا يتطلب الكثير من الدهاء والخبرة والروح القيادية والقدرة على تحريك المجموعة. أما الحل الثاني، فهو أن تقوم بالفعل وتلصقه بشخص آخر. وهذا يتطلب أيضاً دهاءاً وخبرة وبذلك تتم المتعة ويوم لك ويوم عليك. فأغنم من الحاضر لذاته فليس في طبع الليالي الأمان.

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *