اللواء الركن م. الدكتور بندر بن عبد الله بن تركي آل سعود
ليس ثمًّة شك أن أكثر الأيام خلوداً في ذاكرة الأمم والشعوب، هي تلك الأيام المشرقة التي أكثرها أثراً في حياتهم، وأبقاها نفعاً على مر الأيام والدهور. وأنفع الأعمال أشملها، وأوثقها صلة بالروح والمشاعر، حتى تضيء الطريق للأمة، فتبصرها بما يجب أن تنتهجه في مختلف مراحل تطورها عبر التاريخ لكي تبقى حية منتجة متفاعلة مع كل الأحداث، مواكبة لصيرورة التاريخ وتطور الأمم، سعيدة بإنجازاتها، فخورة بأداء رسالتها في الحياة.
وأحسب أنه لا يختلف اثنان على أن الأيام العظيمة في حياة الأمم والشعوب، هي تلك التي يتجدد بتجددها وتعاقبها حوافز من التأسي والاعتبار، حتى تبقى لتلك الأيام الخالدة في وجدان الشعوب نضارتها، ولتنمي آثارها الخالدة التي ببقائها بقاء الأمة وحياة شعبها.
وفي ظل هذه المقدمة المقتضبة، تحل علينا الذكرى الثامنة والثمانون ليومنا الوطني الخالد، الذي تم فيه بتوفيق الله سبحانه وتعالى، ثم بجهد المؤسس، والد الجميع، الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، طيَّب الله ثراه، وبصدق نيَّته وثقته في خالقه، وعمله الدءوب، وإخلاصه لعقيدته ورسالة أسرته الخالدة في التاريخ، التي ذروة سنامها توحيد الله جلَّ وعلا وإعلاء كلمته، وتنقية الإسلام مما لحق به من بدع وضلالات، ونصرة العقيدة، وخدمة الحرمين الشريفين، وضمان راحة ضيوف الرحمن من حجاج ومعتمرين وزوار، ونصرة قضايا العرب والمسلمين والمستضعفين في الأرض، وتقوية أواصر الإخاء والحب والأُلفة بين جميع سكان جزيرة العرب وبسط الأمن الشامل، حتى أصبح الراكب من اليمن إلى الشام لا يخشى إلا الله، ثم الذئب على غنمه.
فالحمد لله الذي بعث فينا عبد العزيز آل سعود، المتوكل على الحي الودود، فانتشل جزيرة العرب من تلك الحالة التي كانت تعيشها قبل مجيئه من حيث انتشار الجهل الذي يعد أصل كل داء، واستشراء أسباب العداوة والفوضى والبغضاء والشقاق، فوحَّد بين قلوب أبنائها قبل أن يوحد بين جغرافيتها، كما يؤكد دوماً سيدي الوالد خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حفظ الله ورعاه، وسدَّد على طريق الخير خطاه، حادي ركبنا اليوم، قائد قافلة خيرنا القاصدة، أعرفنا بعبد العزيز وأكثرنا به شبهاً خَلْقَاً وخُلْقَاً، مستودع تاريخنا وإرثنا الحضاري.
فوحَّد عبد العزيز بين أبناء هذه الأمة الخيِّرة، أمة الرسالة القاصدة، تحت راية العدل والمحبة والمؤاخاة، وجمع بسعيه على فعل الخير متفرقها، وأزال بما أتى به من تعاليم الدين الحنيف كل ما شاع بينها من أسباب الفرقة والاختلاف، حتى أصبحنا جميعاً إخواناً متحابين متعاونين على البر والتقوى، تماماً كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
والحقيقة، لم يقتصر جهد عبد العزيز على توحيد البلاد وتوثيق عرى المحبة والإخاء بين جميع أبنائها في كافة أصقاعها، بل وضع اللبنات الأولى لنهضتها وتطورها، فكان أصل ذلك دستورها الذي حدده عبد العزيز، الملك الصالح في كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فاحتكم إليه الأمير قبل الخفير، بل احتكم إليه عبد العزيز نفسه، وتاريخه حافل بعدل تقشعر له الأبدان، وقف فيه عبد العزيز جنباً إلى جنب مع خصمه، عدل يذكرنا بعدل الفاروق عمر رضي الله عنه، كما أجمع على ذلك كل من كتب عن تاريخ عبد العزيز، حتى أصبح العدل اليوم أبرز السِّمات التي تميز بلادنا، بل قل أصبح بصمة سعودية خالصة بامتياز،
لاسيَّما في هذا العهد الزاهر، بقيادة سيدي الوالد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، و ولي عهده الأمين، أخي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، نائب رئيس مجلس الوزراء، حارس عريننا الهمام، أشبهنا بعبد العزيز وسلمان، وهو عدل لن تسعه الصفحات وإن طالت، ولن يصفه الأدباء والكُتَّاب مهما أطنبوا واسترسلوا، ولو لا ضيق المساحة التي تتاح لمثل هذه المشاركات في مثل هذه المناسبات السعيدة، لأوردت لكم نماذج مدهشة من عدل ليس له في الدنيا مثيل اليوم؛ وقطعاً يدرك كل منكم كثيراً من المواقف التي تؤكد هذا وتؤيده، حيث لا تمييز بين كبير وصغير، ولا شفاعة أمام شرع الله لأمير أو وزير، فالكل سواء بسواء.
والتزاماً بنهج المؤسس في استمرار رسالة الخير القاصدة، استطعنا بتوفيق الله لنا، ثم بجهد قيادتنا الرشيدة اليوم، واصطفافنا تحت راية التوحيد الخفاقة، أن نحقق في سنوات تعد على أصابع اليد الواحدة، ما عجزت أمم وشعوب عن تحقيقه في عقود، فأصبحنا رقماً صعباً، ليس في سياسة الشرق الأوسط واقتصاده فحسب، بل في سياسة العالم كله واقتصاده، فتوافد إلينا زعماء العالم،
واشرأبت أعناق الاقتصاديين والمستثمرين من كل حدب وصوب لعاصمة المجد، عاصمة عبد العزيز.. نبع الحضارة، مولد الاقتصاد، مطبخ السياسة وعرين الأسود، الذي أدهش العالم بصدق عقيدة أبنائه، قبل أن يدهشه بما حازه من علم، وما وهبه الله من شجاعة وإقدام عزَّ نظيرهما في عالم اليوم. فلا مساومة على المبادئ، ولا تفريط في ذرة رمل واحدة من أرض الرسالة، مشعل النور للعالم كله،
ولا خذلان للقيادة الرشيدة، التي أدهشتنا دوماً بتواجدها أمامنا في كل المواقف، مهما اشتدت الصعاب وتكالبت المحن.فلا غرو إذن إن تدافعت سهام الحاسدين الحاقدين القابعين في الكهوف، المقتاتين على الملق والنفاق، سماسرة السياسة الخاسرة التي لم تعد تنطلي على أحد، ليرموننا بكل ما تأصَّل في أنفسهم المريضة من صفات قميئة، فساعة يجترون اتهامات الخصوم لنا بوهابية من دون أن يدركون معنىً لها، وتارة يتهموننا بالعمالة، وثالثة يرموننا بالتخلف والرجعية… إلخ من اتهامات باطلة، وحجج واهية، ومحاولات يائسة لوضع العصا في مسيرة خيرنا القاصدة.. فليخسئوا وليقبعوا في كهوفهم فلا يغادروا نفوسهم المريضة.