متابعات

جمع العرب ووحد لهجاتهم إلى الفصحى.. دراسة علمية حديثة توثق تاريخ وأعلام سوق عكاظ

الطائف- البلاد

أنهى فريق علمي من الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني مؤخرا دراسة عن تاريخ سوق عكاظ ، تناولت تاريخ السوق والحضارات التي شهدها موقع السوق والمواقع المجاورة له، إضافة إلى نتائج الكشوفات الأثرية التي قامت بها فرق التنقيب الأثري التابع للهيئة.

ويعد سوق عكاظ في محافظة الطائف أحد أقدم أسواق العرب، ويمثل موقعه أهمية تاريخية أظهرت التنقيبات الأثرية الأخيرة لفرق الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني أنه شهد حضارات تعود إلى العصر الحجري .

وتعتبر سوق عكاظ فصلاً مهمًا من تاريخ العرب قبل الإسلام فقد كانت تُمثل تجمعاً اقتصادياً، واجتماعياً، وثقافياً، وقد تطورت فيه لغتهم، وشعرهم، وأدبهم، وذابت فوارق لهجاتهم، وعاداتهم، وتوحدت لغتهم نحو اللغة العربية الفصحى التي نزل بها القرآن الكريم. وقد بينت الدراسة التي أعدها كل من الدكتور سعد بن عبد العزيز الراشد، والدكتور فرج الله أحمد يوسف، والدكتور سعيد بن دبيس العتيبي , أن بداية سوق عكاظ كانت في عام 501م أي قبل ظهور الإسلام بقرن،

وبعد إنشار الإسلام ضعف نشاط السوق حيث استعاض الناس عنها بأسواق مكة الدائمة، وسوق منى، إلى جانب تأسيس مدن الأمصار في البلاد التي فتحها المسلمون مما جعل الناس يستغنون بأسواقها. وتبدأ سوق عكاظ في أول ذي القعدة من كل عام، فيفد الناس إليها، وتستمر حتى العشرين من ذي القعدة، ثم يرتحل الناس منها إلى سوق مجنة، فإذا أهلّ شهر ذي الحجة ذهب الناس لسوق المجاز، ثم إلى الحج .

معرض شامل
وكانت عكاظ معرضاً تجارياً شاملاً تُجلب إليه أنواع البضائع المختلفة من هجر والعراق، والشام، وفارس، واليمن، ومن البوادي , يجلب إليها السمن، واللبن، والأقط، والأغنام، والإبل، ومن اليمن البُرَد الموشاة، والأدم، ومن الشام السلاح، ومن فارس الطيب والحرير، ومن الطائف الجلود، والزبيب، والعنب، كما اشتهرت عكاظ ببيع الأدم حتى قيل أديم عكاظي منسوب إليها مع أنه لم يكن ينتج في السوق، بل لكثرة ما يرد من أنواعه إلى عكاظ من مختلف الأنحاء.

وكانت عكاظ منتدًى ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً للعرب يقصدونه ليبرزوا فيه أخبارهم، ويتفاخروا بأدبهم، وشرفهم. كما كانت عكاظ مكاناً يظهر فيه العرب مكارمهم شهامة، أو طلبا للسمعة والشهرة، كما كانت عكاظ مكاناً يُشَهّر فيه بالأشخاص، والأحداث، فمن أُسدي له معروفاً،

وأراد شكره حضر إلى مجتمع سوق عكاظ، وأعلن شكره لمن أسدى إليه المعروف، وعدد محاسنه. وأبرزت الدراسة أن في سوق عكاظ يتم الصلح، وإنهاء العداء، والحكم في القضايا الخلافية والتجارية، وكان الذي يقوم بالقضاء أناس من بني تميم، اشتهر منهم الأقرع بن حابس، وكان قضاة السوق يحرصون على التأكد من مصدر البضائع التي ترد إليه حتى لا تفد على السوق بضائع مسروقة، أو غير معروفة المنشأ.

وأظهرت الدراسة أن في سوق عكاظ يتم إعلان الأحلاف، ومن كانت له إتاوة على قبيلة نزل عكاظ فجاءوه بها، ومن أراد إجارة أحد هتف بذلك في عكاظ، ومن أراد قوم بحرب أعلن ذلك في عكاظ . وشرحت الدراسة أن من أسباب اختيار سوق عكاظ لإعلان الصلح، والفداء، والمعاهدات، والإجارة، ونحو ذلك، لما يشهده السوق من اجتماع كبير للعرب، وحتى تشهد العرب بذلك وتنشره بين بقية القبائل في كل مكان.

النشاط الأدبي
وعدت الدراسة النشاط الأدبي من أهم مظاهر سوق عكاظ، واكتسبت عكاظ اسمها من المعاكظة بين الشعراء، أي: التباري في القاء قصائد الفخر، ولا يعني هذا عدم وجود أنواع الشعر الأخرى كالرثاء وغيره، ومعظم القصائد التي تلقى في سوق عكاظ، مما أحدثه الشعراء من الشعر، فيحرصون على إلقائه في موسم سوق عكاظ ليسمعه الحاضرون، ويتناقله الرواة, وكان كبار الشعراء يعلقون القصائد في عكاظ افتخارا بفصاحتها. وتذكر المصادر أسماء كبار الشعراء الذين يحضرون موسم سوق عكاظ،

ومنهم النابغة الذبياني، والنابغة الجعدي، وحسان بن ثابت، وعمرو بن كلثوم، والمستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد، وغيران بن سلمة، والأعشى، والخنساء (تماضر بنت عمرو)، والأغلب العجلي، وهديم بن جواس التميمي، والراهب المحاربي، والسليك بن السلكة، وغيرهم كثير. وشهدت عكاظ نوع آخر من الأدب، وهو الخطب، وكان للخطبة،

والخطباء عند العرب مكانة لا تقل أهمية عن الشعر. وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام حاضراً موسم سوق عكاظ سنة إلقاء قس بن ساعدة لخطبته، فقد روي عن قصة وفد قبيلة إياد أنه لما قدم الوفد إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ليعلن إسلام القبيلة سألهم رسول الله عن قس بن ساعدة الإيادي،

فقالوا مات يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل له أوراق، وهو يتكلم بكلام عليه حلاوة ما أجدني أحفظه”، فقال أحدهم إني أحفظه يا رسول الله، وتلا عليه بعض خطبة قس بن ساعدة. ولقد كان من أعظم آثار أسواق العرب قبل الإسلام توحيد لغة العرب، وعادتهم من عامة الأقطار، ونهضة الشعر (ديوان العرب).

وأشارت الدراسة إلى أن أرض سوق عكاظ في الجاهلية، وصدر الإسلام كانت صحراء مستوية لا عَلَم فيها، ولا جبل، ولم تذكر المصادر أي إنشاءات أو مبانٍ في موضع السوق، بل كانت تنصب القباب أيام السوق لحكام عكاظ . وبينت الدراسة أن المنطقة لم تخل من دلائل الاستيطان لفترة ما قبل التاريخ؛ حيث وجد في الجنوب من سوق عكاظ بحوالي 5كم، مرتفعين جبليين يربط بينهما أساس جدار بطول 300م، وعرض 2م، وفوق قمة كل مرتفع مجموعة من الركامات الحجرية، كما عثر على ملتقطات سطحية عبارة عن شظايا من حجر الصوان، تظهر على بعضها آثار تقنية التصنيع. ويرجّح أن بعض تلك المنشآت مقابر تعود للفترة المتأخرة من العصر الحجري الحديث، أو فترة عصر البرونز .

وأفادت الدراسة أن منطقة العرفاء التي هي امتداد لمنطقة سوق عكاظ الجغرافية من الناحية الشمالية، سجلت أعمال المسح الأثري عدداً من مواقع الرسوم الصخرية، حيث سُجّلت أعداد كبيرة من الرسوم الآدمية والحيوانية، منها: مناظر معارك بالقوس والسهم، ومناظر لصيد الوعول باستخدام كلاب الصيد ، وأعداد كثيرة لرسوم الإنسان، ورسوم أبقار بقرون متجهة إلى الأمام، ورسوم الوسوم المختلفة الأشكال.

وبالإضافة إلى موقع العرفاء، وجدت الرسوم الصخرية في منطقة عكاظ على هضبة السرايا الحمراء في موقع سوق عكاظ، حيث وجدت رسوم تجريدة منفذة بألوان سوداء تمثل رسم حصان يظهر عليه راكب، وأشكال أخرى غير مميزة بسبب تأثرها بعوامل التعرية، وفي مواقع وداي لوان، شرق سوق عكاظ بمسافة 7كم وجد على امتداد الوادي موقعين للرسوم الصخرية على صخرات على طرف مجرى الوادي يشتمل أحد المواقع على رسوم لأبقار، ورسم آدمي بشكل تجريدي، واشتمل الموقع الآخر على رسم متقن لجمل.

وتم توثيق عدد من النقوش المعروفة بالخط الثمودي المتأخر في مواقع العرفاء، ووادي لوان، وهي من نوع النقوش التذكارية القصيرة .

وكشفت أعمال المسح الأثري في محيط سوق عكاظ عن عدد من المواقع الأثرية منها موقع العبل الذي يقع شرق سوق عكاظ بمسافة 2كم، وهو معلم طبيعي عبارة عن تل مرتفع يتكون من قمتين يوجد على قمته دائرة حجرية، وقد تكون إحدى علامات طريق الحج اليمني، كما وجد عدد من أساسات المباني الأثرية على بعد 500م شمال غرب البوابة الشمالية لسوق عكاظ، بعضها تبقى منه أجزاء من أساساتها، وبعضها يمكن تمييز تفاصيل تخطيطها.

نقوش إسلامية
وسجلت أعمال المسح الأثري عدداً من النقوش الإسلامية مدونة على هضبة السرايا الحمراء في وسط عكاظ، وهي من نوع النقوش التذكارية التي يسجلها المسافرون على سفوح الجبال القريبة من مسارات الطرق، أو يسجلها المقيمون في المنطقة، وتتضمن مثل هذه النقوش عبارات أدعية مختلفة المضامين،

مثل: طلب الرحمة، والمغفرة، أو آيات قرآنية ونحو ذلك، وتنفذ تلك الكتابات بطريقة الحز السطحي بالخط الكوفي غير المنقوط، ومعظمها غير مؤرخ إلا أنه من خلال مقارنة أشكال الحروف ومضامينها، وأساليب تنفيذها مع ما وجد مؤرخ؛ فإن فترة تاريخ النقوش التذكارية تتراوح بين القرن الأول والثالث الهجري.

وتنوعت المواقع الأثرية المهمة قرب سوق عكاظ بئر البيضاء التي تقع جنوب شرق سوق عكاظ بمسافة 2.47كم، وكانت أحد مصادر المياه في منطقة سوق عكاظ، وعلى طريق الحج اليمني حيث وجد في الجهة الغربية منها أساسات بناء يعود للعصر الإسلامي المبكر.

ويبدو أنها ظلت تجدد، وتستخدم حتى وقت قريب إذ يوجد طبقة من الإسمنت استخدمت لتجديد محيط جدارها الخارجي من الأعلى.

وتوجد في منطقة عكاظ قلاع وقصور تاريخية من الفترة الإسلامية المتقدمة من ابرزها قصر مشرفة الذي يعود لفترة العصر الاسلامي المبكر (الفترة الأموية والعباسية)، وقلعة العرفاء التي بنيت في أواخر القرن الثالث عشر الهجري ( التاسع عشر الميلادي)، وقلعة مروان على بعد 3كم جنوب سوق عكاظ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *