أوراق .. وذاكرة الأرشيف

الشيخ فقيه يروي فكرة مشروع مكة للإنشاء والتعمير (الحلقة التاسعة)

مقدمة:
مرحلة جديدة يتطرق اليها الشيخ عبدالرحمن فقيه في مذكراته التي تناول فيها في هذه الحلقة التاسعة مشروع مكة للانشاء والتعمير.. هذه المرحلة بدأت بمحاولة التقاعد المبكر بعد النجاح الذي حالفه بعون الله وتوفيقه ليفكر في شراء منزل قريب من الحرم الشريف.ومن زقاق البخارية ينظر الشيخ فقيه الى حال الحي وما يعانيه الحجاج والمعتمرون وزوار بيت الله الحرام من زحام شديد وشح كبير في الخدمات الى جانب النسيج العمراني المشوه وغير المتناسق الذي كانت عليه المساكن والتي لا تليق بهذا الموقع الشريف. ومن هنا بدأ تأنيب الضمير ليقود الى المرحلة الجديدة من العمل والاستثمار لمنفعة الجميع.

الفصل الثامن
مشروع مكة للإنشاء والتعمير
مراحل العمر والتطور
كانت بدايتي في العمل التجاري، كما رويتها في بداية هذا الكتاب، مع بلوغي سن السابعة عشرة من عمري، وبالتحديد بعد انتهاء دراستي المتوسطة.. حيث رغب الوالد يرحمه الله في مساعدته في عمله وعدم إكمالي للمرحلة الثانوية ثم ابتعاثي للدراسة الجامعية كما هو حال بقية اخواني.امتثلت لرغبته وواصلت العمل في دكان الصباغة، وحاولت الاستفادة من سلبيات الحرب العالمية الثانية، فكانت لي مغامرات صناعية وتجارية ناجحة وفاشلة في تصنيع النشأ والزجاج والكلور والصابون وحامض الكبريتيك. كما سعيت لتطوير دكان الصباغة، فأصبحنا مستوردين وتجار جملة، بعد أن كنا تجار قطاعي. ثم امتد نشاطي إلى تجارة السمن النباتي لعشرين عاماً، ثم انتقلت الى منتجات الدواجن.
محاولة التقاعد المبكر
وقد حالفني النجاح ولله الحمد في كل تلك المراحل، وتكونت لدي ثروة لا بأس بها، وكنت قد بلغت الستين من عمري بعد كفاح مستمر ووجدت نفسي تواقة للتفرغ للعبادة بجوار بيت الله الحرام.فكان أن بدأت عن دار يجاور الحرم الشريف أقضي فيه ما تبقى لي من حياتي.كان الكثير من أبناء مكة يسكنون في مناطق مجاورة بعض الشيء للحرم، فمكة لم تكن بذلك للتوسع الذي هي عليه الآن، وكان الوصول إلى المسجد الحرام سهلاً وميسوراً للجميع.
نقلة عملية كبرى
وجدت أخيراً منزلاً في (زقاق البخارية)، لا يبعد عن بيت الله الحرام أكثر من مائة متر. وكنت أتصور أن هذه المحطة من مراحل العمر التي وصلت اليها هي محطة الخلود إلى الراحة والعبادة والتأمل، ولم يخطر ببالي انني سابدأ بها مرحلة شاقة في كفاح وجهد وتعب تخللتها صراعات ومناورات يتضاءل بجانبها كل ما واجهت في مراحل عمري السابقة.لقد كنت أتعامل طوال عمري مع جمهور المستهلكين والمصدرين وتجار الجملة والقطاعي، كان ذلك الجمهور بسيط في تعامله وبسيط في مشكلاته، وإذ بي أطرق أبواباً أتعامل فيها مع كافة شرائح المجتمع ابتداءً من رجل الشارع، مروراً بمرافق الدولة المختلفة، ووصولاً إلى ولي الأمر.
إشرافه على واقع مرير
كان منزلي الصغير الذي اشتريته بجوار الحرم الشريف يمثل لبنة صغيرة في أشرف بقاع الأرض ويطل على الحرم الشريف والكعبة المشرفة، ولكني لمست من خلال معايشة واقع الحياة في المنطقة الحيطة مقدار ما يعانيه الحجاج والمعتمرون وزوار بيت الله الحرام من زحام شديد وشح كبير في الخدمات. أضف الى ذلك النسيج العمراني المشوه وغير المتناسق الذي كانت عليه المساكن والتي لا تليق بهذا الموقع الشريف. قد يكون ذلك الوضع مقبولاً قبل مائة عام أو أكثر بسبب قلة الناس وقلة الزوار وتلاؤمه مع وسائل المواصلات البدائية آنذاك، لكنه غير مقبول اليوم في ظل التقدم الكبير والنمو الذي عاشته وتعيشه بلادنا.
حال الدور المجاورة للحرم
قد يندهش القارئ إذا عرف أن الوقف الذي جاور داري كان عبارة عن بستان صغير وفيه بئر للماء، وكان البستان يسقى بواسطة ثور يرعاه أجير وأن صاحب ذلك الوقف كان يخصص جزءاً من الريع للانفاق على الثور والأجير، فلا يتبقى له بعد ذلك إلا النزر اليسير.. وقد يندهش أكثر إذا علم أن مساحة الدار التي اشتريتها لا تزيد عن ثلاثين متراً مربعاً، والباقي عبارة عن سلالم.
أزقة ضيقة لا تتسع لشخصين
وهكذا كان وضع الدور في تلك المنطقة فلم يكن وضعها أفضل حالاً من وضع الدار التي اشتريتها.. ناهيك عن منظر وتصميم الأزقة المتداخلة، حيث أن بعض البيوت ليس لها مدخل إلا عن طريق بيت يملكه شخص آخر.. كما انه يتعذر في بعض المنازل اخراج الجنائز من أبوابها بل يتم اخراجها عن طريق الشبابيك، لان السلالم لا تتسع مرور الجنازة، وبعض الأزقة من شدة ضيقها لا يمكن لشخصين أن يمرا معاً إلا إذا أدار أحدهما وجهه للجدار ليترك فسحة المرور للآخر.
خططت منزلي بأنانية
صممت خريطة لمنزلي الصغير من أربعة أدوار وكان بإمكاني توفير الخدمات العامة لنفسي، من كهرباء وماء وصرف صحي.. الخ. ولكنني شعرت أنني لو فعلت لكنت محدوداً في نظرتي، واناني في هذا التصرف، فكل ما يعنيني مصلحة نفسي وكيف أمضي البقية الباقية من عمري في روحانية وسلام وهدوء.هذا الإحساس أقض مضجعي إذ كيف لي أن أنظر لنفسي وأترك ما حولي، بمعنى كيف اهتم بمنزلي فأطوره وأوصل له ما يحتاجه من خدمات، وأترك ما حولي من مساكن عشوائية بكل ما تعانيه كلمة عشوائية.
تأنيب الضمير وبداية مرحلة
كان تأنيب الضمير بداية مرحلة جديدة في حياتي انتقلت فيها من تجارة ما ينفع الناس ويعود بالربح علي إلى توفير الراحة لغيري ولنفسي بالدخول في شكل جديد من العمل والاستثمار الذي ينفعني وينفع غيري مجتمعي. مشروع سيغير الشكل الذي عليه المحلة التي سأسكن في جزء منها بقية عمري، وينقلها من طور البدائية الى الحداثة، ومن الخدمات المعدومة وشبه المعدومة، الى افضل خدمات عصرية شاملة ومتكاملة، مشروع سيضاعف الاستفادة من مساحة أعظم بقاع الدنيا، والمجاورة لأعظم بيت على وجه الأرض، لتأوي وتخدم عشرات الألوف من ضيوف الرحمن بدلاً من الاعداد المحدودة التي تستطيع أن تحتويهم بوضعها الراهن.
تطوير الأوقاف وتحسين ايرادها
وفي نفس الوقت يكون مشروعاً لا يؤثر على ملكية أصحاب الدور بما في ذلك الأوقاف، والتي هدفها تحصيل عائد استثمارها وإنفاقه في خدمة أهداف الوقف.
فكونها أوقافاً لا يعني أن تبقى كما يقول المثل الشعبي (مثل بيت الوقف)، أي جامد بدون تدوير أو تنمية حتى يندمر أو يندثر.ولذلك فإن دخول الأوقاف كشريك رئيسي في مشروع التطوير لن يؤثر على المحصلة النهائية التي من أجلها أوقفت تلك الأوقاف، بل سيزيد من ريعها بأضعاف ما كانت تحصل عليه تلك الأوقاف بحالتها القديمة.
فكرت في تطوير المنطقة بالكامل ودمج العقارات (الوقف والملك واملاك وزارة المالية، وعقارات “الغيب”) في كيان واحد، وهي فكرة جديدة على المجتمع، وحتى على الفقهاء، إذ كيف يتم دمج الوقف مع الملك في كيان واحد، ولكن لا يتم التطوير الا بهذا الاسلوب. وكيف يتم اقناع أصحاب العقارات وأخذ عقاراتهم ودمجها في هذا الكيان. انها مهمة صعبة ولكنها معقولة ومفيدة ومريحة لكل الأطراف.
مصلحة كل مشارك
كما ان هناك فرصة اخرى لمن لا يريد ان يبيع أرضه وعقاره ولا يريد ايضا ان يساهم في التطوير ان يحصل على نصف قيمة عقاره نقدا، ويدخل بالنصف الثاني كمساهم في الشركة التي ستتولى التطوير وهكذا يعم الخير الجميع ويشعر كل مالك انه مشارك ومستفيد ، وان ملكه المحدود تتطور ليصبح عملاقا يخدم ضيوف الرحمن ويستفيد منه أهل مكة وتتحسن دخول اصحاب العقارات في المناطق المطورة.ان التطوير في حد ذاته يعتبر مطلبا للجميع ولاشك في ان احدا سيرفضه فقد زرت مدنا كثيرة في العالم ولمست كيف يكون التطوير عاملا رئيسيا في تفير السكن الصحي المناسب للجميع وفي نفس الوقت يقدم خدمة للملاك وفرص عمل للعاطلين واستثمار سخي الربح.وهذه مكة المكرمة ، وهنا بقعة من أطهر بقاع الأرض ولابد أن تكون مثالا في التنمية العمرانية ، هذا ما وضعت لنا القدوة فيه دولتنا بعمارة المسجد الحرام وتوسعته ليكون في مستوى ما وصلت اليه بلادنا من تقد ورقي في جميع المجالات.
عرضت الفكرة على الاصدقاء
جمعت بعضاً من أصدقائي وعرضت عليهم فكرة تطوير كامل المحلة التي اشتريت فيها منزلي ، فوجهت برفض اكثرهم لانها فكرة خالية في نظرهم كما نبهني بعضهم الى أن بالمحلة أوقافاً، ولا يجوز دمج الاوقاف مع الاملاك . كان ملخص الفكرة التي عرضتها عليهم هي هدم المنطقة برمتها وإعادة أعمارها بشكل حضاري وإيجاد نسيج عمراني أفضل يترتب عليه زيادة الاستيعاب للسكان من الحجاج والمعتمرين وفي نفس الوقت يحقق زيادة دخل اصحاب الدور القديمة وذلك بإنشاء مجمع سكني تجاري عصري ضخم يليق بهذا الشريف.
فلم يوافقني أحد
لم أجد من الصحب تشجيعاً إلا من قلة منهم وافقني على استحياء وربما مجاملة لي. وقد قال بعض من لهم أملاكا في تلك المنطقة : هل تريد ان تملي إرادتك على أناس راشدين ليسوا بقصار ولا أطفال؟ فقلت لهم أن ما يملي ذلك المصلحة العامة وتوجه ولي الأمر لإعادة اعمار الأحياء المجاورة للحرم.
ملخص فكرة التطوير
ان ملخص فكرة التطوير التي دافعت ولاأزال أدافع عنها هي أن يشترك جميع من يملك اراضي العقارات في حي عشوائي معين في تأسيس شركة تعيد بناء الحي بأكمله ، ثم نستثمره بإسلوب تجاري وتوزع الأرباح على المساهمين حسب نسبة مساهمتهم . ولن تضيع حقوق أي مالك لأنه مساهم عن طريق ما يملكه وسيحصل على وثيقة شرعية تثبت حقه . واذا لم يرد المساهمة في التطوير تقدر أملاكه من قبل لجنة متخصصة مشكلة من أطراف حكومية وأهلية وعدلية محايدة.
دعمنا للملك فهد بحماس
وقبل أن أبدأ خطواتي عرضت الفكرة على ولي الأمر خادم الحرمين الملك فهد بن عبدالعزيز فوجدته رحمه الله متحمساً لها لأنه كان يفكر فعلا في تطوير كامل الاحياء المحيطة بالحرم المكي الشريف.وبعد هذه الخطوة الهامة جدا اجتمعت مع عدد من الملاك في تلك المنطقة وشرحت لهم فكرة التطوير فوافقني مجموعة منهم وتوجهنا بعريضة الى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله نشرح فيها مشروعنا . ولا أزال أذكر بأننا وقعنا تلك العريضة في الديوان الملكي حيث كنا بين أخذ ورد حتى وصولنا الى الديوان ثم تقدمنا كمجموعة الى خادم الحرمين وقام بقراءتها أمامنا وأبدى إعجابه الشديد بالفكرة وباركها فوراً .. وأبدى استعداده لدعمها.
صعوبات اجتماعية
وكان ذلك انتصاراً للفكرة التي ناديت بها وسعدنا جميعاً بذلك الدعم . ولكن بالرغم من تأييد ولي الأمر وتشجيعه ودعمه للفكرة الا انني كنت أشعر في أعماقي بأن هناك صعوبات اجتماعية سوف أواجهها من الكثيرين لان (رضاء الناس غاية لا تدرك) ولا ننسى انه عندما يتعلق الأمر بالمصالح فهناك مطامع شخصية وهناك محاولة اثبات الوجود من البعض وهناك مطامع انتهازية من البعض الآخر وكانت المصلحة العامة هي الورقة اليتيمة الضائعة التي يدعي بها كل الأطراف.
صدور الأمر السامي
ولم يمر وقت طويل حتى صدر الأمر السامي الكريم بالموافقة على تأسيس الشركة التي طالبنا بتأسيسها (برقم م/50 وتاريخ 12-11-1408) تحت مسمى (شركة مكة للإنشاء والتعمير).فبدأت معركة بين كثير من الفرقاء على مستوى المشايخ والجمهور والقانونيون ورجال الدولة في تفسير هذا الأمر وتعليله وكيفية تطبيقه.وكان أهم التساؤلات موضع الأخذ والرد : هل يجوز لنا نزع الملكية من المعترضين الذين لا يريدون ان يساهموا في الشركة ام لا يجوز؟
بعض المشايخ كانوا متعاطفين مع جمهور المعترضين بان ذلك لا يجوز شرعاً باعتبار ان المشروع يخدم اغراضا خاصة لشركة تجارية. وهم في ذلك لم يفرقوا بين شركة يملكها شخص واحد، وبين شركة سيملكها كل من له عقار في تلك المنطقة.
فترة عصيبة حالت دون التنفيذ
لقد كانت فترة عصيبة لم تحظ فيها الشركة بجواب حاسم يجعل المشروع قابلا للتنفيذ. فيما أخذت اعداد الحجاج في الزيادة عاما بعد عام وكان لابد من مواجهة هذه الزيادة بتوفير المساكن وانشاء مشاريع توسعة المشاعر المقدسة . وقد تصدى لذلك خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله حيث أمر في مطلع عهده الميمون في بداية القرن الهجري الخامس عشر منتصف الثمانينيات الميلادية بتنفيذ المشاريع الكبيرة لتوسعة كل من الحرم المكي والحرم المدني ولتطوير مكة المكرمة والمدينة المنورة حتى تستوعب الاعداد المتزايدة من الحجاج.
تنظيم وتحديد نسبة الحجاج الوافدين
وهكذا تحولت المدينات المقدستان الى ورشة عمل لا تهدأ ليلا ونهارا بما يعنيه ذلك من هدم وازالة وحركة إنشاء وتعمير تحد من استيعاب الحرمين المشاعر المقدسة لضيوف الرحمن.وتقديرا لهذه الظروف صدر عن المؤتمر السابع عشر لوزراء خارجية الدول الاسلامية والذي عقد في العاصمة الاردنية عمان في مارس عام 1988م، قرارا بشأن التدابير الخاصة بتنظيم وتحديد اعداد الوافدين الى الاماكن المقدسة لاداء فريضة الحج.وأيد القرار مقترح المملكة بتحديد نسبة محددة من سكان كل دولة يمكنهم الحج كل عام (نظام الكوتا) تعادل حاج لكل ألف مسلم في كل دولة ، طالبا من كافة الدول الاعضاء في منظمة المؤتمر الاسلامي التعاون مع المملكة في كل ما من شأنه اتخاذ الاجراءات الملائمة لذ1لك بما يكفل تكافؤ الفرص بين جميع الحجاج وتأمين مناسكهم وتوفير جميع وسائل الراحة له.
مجسم المشروع جال العواصم الاسلامية
لقد أكدت تلك الظروف اهمية مشروعنا والذي يلبي توجه ولي الأمر في تطوير مكة والمشاعر وتوفير سعة استيعابية اكبر لضيوف الرحمن وساهم في ذلك في خروج مشروع شركة مكة للانشاء والتعمير الى حيز الوجود وزاد من ذلك ان طلبت وزارة الحج منا المجسم الذي يظهر ضخامة المشروع والاعداد الهائلة التي يستوعبها حتى يرافق مع مخططات المشاريع الاخرى في المشاعر المقدسة وزير الحج بالنيابة ووزير الدولة الدكتور فايز بدر رحمه الله في جولته بعواصم الدول الاسلامية.
وكان الهدف من هذه الجولة اطلاع المسؤولين فيها على ما تبذله حكومة خادم الحرمين الشريفين من جهود جبارة من اجل توسعة الحرمين الشريفين، وما يقام في المنطقة المركزية لكل من مكة المكرمة والمدينة المنورة وفي المشاعر المقدسة من مشاريع تعمل على توفير خدمات إسكان أعلى تتناسب مع تزايد الحجاج في السنوات القادمة.
موقف الملك فهد دعم المشروع
لقد غاب عن المعترضين لتطوير المنطقة التي خططت لاقامة (مشروع مكة للانشاء والتعمير) ان الهدف الاول من التطوير هو المصلحة العامة وزادوا من وتيرة اعتراضهم فصدر أمر ملكي كريم آخر بإلزام المعترضين على تسليم املاكهم للمطور بعد ان زيدت تقديرات املاكهم بـ 10% وبدأت عمليات ازالة تلك المساكن القديمة في المنطقة بسرعة كبيرة وللتاريخ اقول بان لموقف ولي الامر الملك فهد رحمه الله اليد العليا في دعم هذا المشروع وتشجيعه وازالة العقبات التي كانت تعترض طريقه.
أعذار المعترضين .. في البداية
حقيقة فإني أعذر المعترضين في بداية الامر لان فكرة التطوير ودمج الاملاك مع بعضها البعض ودمج الوقف مع الاملاك وبالتالي هدم كل البيوت او المنازل الموجودة في تلك المنطقة العشوائية واعادة انشائها بأسلوب آخر يتماشى مع حاجة المجتمع وتطوره كلها كانت افكارا غريبة وجديدة ليس على مجتمع مكة فحسب وانما على المجتمع السعودي والعربي.
المفهوم التقليدي للتطوير
كان التطوير في مفهوم أغلب الناس عبارة عن فتح شارع جديد واعمار الزوائد التنظيمية التي تنشأ من شق هذا الشارع او ذاك وتباع هذه الزوائد التنظيمية اما على الذي اخذ جزء من سكنه لها او على صاحب الملك المجاور لها ويحصل المشتري على تصريح لبنائها من جديد وقد كان ذلك هو كل أسلوب التطوير المتعارف عليه وقتها.لذلك كان اسلوب الشركة التطويري شيئاً غريباً على المجتمع والناس دائماً ما جهلوه خصوصا وانهم لم يتأكدوا من الجدوى المعمارية والاقتصادية التي تعود عليهم بالنفع من هذا التطوير.ولذا كان لهذا الفكر المعماري الجديد فيما بعد (شركة مكة للانشاء والتعمير) اثره الايجابي في المناطق الاخرى من المملكة مثل المدينة المنورة والرياض كما امتد اثره الفكري الى لبنان حيث قامت شركة “سولدير” بتطوير قلب بيروت على نفس المنوال تقريباً.
أرضينا الملاك وأزلنا الدور في 48 ساعة
قبل الازالة اطلت فترة حرجة حيث صدر الامر السامي بإلزام اصحاب العقارات بتسلم املاكهم وتم الاسراع بعملية الازالة حتى لا تحدث اعتراضات ذلك.
بدأنا في ازالة المباني القديمة وكنا نسارع في الهدم من اجل البناء ونزيل كل اسباب العرقلة في اخلاء الدور . فمن قال إنه دفع ايجار لمنزله دفعنا له الايجار الذي دفعه، ومن قال من اصحاب الدكاكين انه عمل ديكو لمجلة قدرنا له تكاليف الديكور ودفعنا له ومن قال انه اشترى بضاعة ولا يستطيع بيعها في غير هذا المكان استقبلنا منه بضاعته حتى ولو غالي في ثمنها . وفي خلال 48 ساعة تمت ازالة 179 منزلا.
وكان كلما تصاعد غبار هذه الهدميات تصاعدت الشكوى الى ولي الامر البعض منهم بحجة انهم ظلموا في تقدير عقاراتهم والبعض الآخر لان هذه الشركة ربحية فكيف تمكنهم الدولة من هدم منازلهم واستغلالها بدون ارادتهم.
نائب امير المنطقة يحقق في الشكاوى
احيلت الشكاوى بصورة عاجلة الى امارة منطقة مكة المكرمة وكان المسؤول عن التحقيق في هذا الموضوع صاحب السمو الملكي الامير سعود بن عبدالعزيز المحسن نائب امير منطقة مكة المكرمة (في ذلك الحين).وقف الأمير بنفسه على الموقع في يوم احد وكان يباشر عمله كل يوم احد وثلاثاء من نفس الاسبوع مرّ على الموقع مرة اخرى فوجد ان المباني التي رآها قبل اقل من 48 ساعة قد أزيلت .. فذهل.وبدأ يتساءل اين الموقع الذي عليه الشكوى والذي سبق ان رأيته قبل ، فأخبروه انه قد أزيل وقد كان الهدف من مجئ سموه رغبته في ان يتجول في أرض المشروع.
الأمير يسأل : كيف تزال منطقة في 48 ساعة؟!
رجع الأمير الى مكتبه في الامارة واستدعى الشيخ عبدالله بن سعيد وهو من الشخصيات المعتبرة وعضو مجلس ادارة في شركة مكة للانشاء والتعمير وقد كان قائما بأعمال الشيخ محمد بن لادن في مكة المكرمة .. وسأله : يا شيخ عبدالله لقد مارست اعمالا كثيرة للشيخ بن لادن، ومنها ازالة مبان وتوسعات في مشروع الحرم وغيره من المشروعات .. فهل مرّ عليك في عملك السابق أن تزال مبان في مثل هذا الحجم خلال 48 ساعة.
ندم الذين لم يساهموا بكامل عقاراتهم
اجتمع سمو الامير بكثير من المعارضين على شكل مجموعات وكان حفظه الله يقنعهم بجدوى المشروع وانه في صالح البلاد وفي خدمة بيت الله الحرام والحجاج والمعتمرين وانه سوف يعود عليهم بالخير والنفع .. واقتنع اكثرهم بان يساهم بعقاره كاملا واقتنع بعضهم ان يساهم بما مقداره 50% من ثمن عقاره ويحصل نقدا على الـ 50 % الاخرى .. وهنا اود ان اذكر بأن هؤلاء الذين ساهموا بـ 50% قد ندموا على قرارهم ذاك، فحاولوا ان يعيدوا الثمن الذي قبضوه 50% ولكن بعد فوات الأوان حيث أقفل الاكتتاب ولم نستطع مساعدتهم.
حتى يتحقق التطوير
إن المضي في طريق التطوير يحتاج دائماً الى سعي لا يعرف الكلل او الاستسلام للمعوقات التي تعترض طريقه فعلى المطور ان يكون مسلحا بالإقناع والجدوى الاقتصادية والرؤية الواضحة للمستقبل والعائد منه، حيث يحتاج كل ذلك وهو يدخل معترك تتجاذبه فيه عدة اطراف قوية ومتعددة المسؤوليات مثل الحاكم الشرعي والحاكم الاداري والجهات الفنية ذات العلاقة بالتطوير ومصادر التمويل لتأمين التدفقات المالية لتنفيذ اعمال التطوير. وكذلك اصحاب الاملاك الذين يمثلون القاعدة الاساسية في عملية التطوير وكل واحد منهم يعتبر معركة قائمة بحد ذاتها.. لأنه من المطلوب موافقته على ما يقدمه المطور من افكار ومقترحات ورؤى، ولكل واحد منهم وجهة النظر الخاصة به.
مسؤولية المطور تجاه الناس
وعلى المطور ان يعمل على ايجاد قاعدة مشتركة ينطلق منها الى حلول عملية وجادة ومقنعة للتعامل مع كل هؤلاء الذين يشعر كل واحد منهم ويرى انه الأقوى والأحق وأن له كلمة الفصل في شأن التطوير واتخاذ القرار . علة المطور ان يتعامل مع كل هؤلاء بحصافة وحكمة وحنكة واقناع مستند الى حقائق واضحة وجليلة لكل مالك ويراعي الله سبحانه وتعالى في كل قول او حقيقة يعرضها حتى لا تتعطل مسيرة التطوير او تتوقف.وطبعا لابد ان يكون المطور صاحب مصداقية وسمعة حسنة فكل ما سبق لا يفيد اذا لم يحسن الناس الظن به وكان تاريخ معاملاته لا يطمئن ولا يعطي الثقة في حسن نيته وصدق قوله وامانة تعامله.
عراقيل (الأنظمة واللوائح)
ومع ذلك كله فانه من خلال تجربتي التي خضتها في مشروع شركة مكة للانشاء لا يمكن ان يتحقق التطوير اذا لم تعمل الجهات المعنية كمنظومة متكاملة بعضها البعض.اما الجهات المختصة في الدولة فعليها ان تنظر الى القطاع الخاص كخادم مخلص يعمل لمصلحة الوطن فتيسر له كل السبل وتمهد له كل الطرق ليشارك في مسيرة لتطوير والبناء دون وضع العراقيل والعقبات أمامه تحت غطاء فضفاض اسمه (الانظمة واللوائح) ,فهدف تحقيق النمو والتطوير هدف مشترك لابد ان يعمل الكل على تحقيقه ولابد ان تتكاتف كل الجهود لخدمته ولن يتحقق شيء من ذلك اذا لم يحظ القطاع الخاص بالدعم والتشجيع لتنفيذ الافكار والرؤى التي تساهم في تطويره ونمائه حتى لا يتعرض الى التثبيط او الاحباط.
اندثار العشوائيات غرب الحرم
لقد كان من الممكن ان يتعثر مشروع شركة مكة للانشاء والتعمير لو ان المرة استسلم للمشاكل والمعوقات والقضايا والاقلام المجابهة للتطوير والمحاربة لفكرة التغير ولكن توفيق الله سبحانه وتعالى ثم دعم ولي الامر والايمان القوي بصدق النوايا والوقوف بالعقل والمنطق والحكمة والبرهان والارقام في وجه كل معترض على التطوير حول الحلم الى حقيقة فتم انجاز المشروع.وهكذا اندثرت المباني العشوائية من منطقة غرب الحرم المكي الشريف التي يقرب عددها من 400 اربعمائة عقار تتراوح مساحتها بين 20 مترا و100 متر مربع وتمثل 27% من الملكيات بتلك المنطقة.
ارباح الملاك من رأس المال
وبدلا من الدور الصغيرة المتداخلة قامت بابراج سكنية وفندقية ومطاعم ومحلات تجارية ومصليات استوعبت عشرات الالاف من المصلين في منظومة عمرانية حديثة فتحولت الايرادات الموسمية الضئيلة لمالكي العقارات الى ملايين الريالات ، واخذت ارباح المشروع تتضاعف سنوياً.وبلغة الارقام بلغ حجم الملاك حتى اليوم ما يعادل 196% من رأس المال الذي شاركوا به عن طريق عقاراتهم التي نزعت لصالح المشروع ولازالوا حتى الآن محتفظين بحصتهم في رأس مال الشركة مما يعني استمرار تدفق ارباحهم ويضاف اليها ارباحا اخرى لمئات الالاف من المواطنين الذين يمتلكون اسهما في محافظهم بسوق المال.وهكذا تعتبر شركة مكة للانشاء والتعمير بعد 15 سنة (أرجو التأكد من الرقم) من تشغيلها من اعلى الشركات المماثلة في استرداد رأس المال مع بقاء اصل السهم لدى المساهمين كما هو.
اقتنع المعترضون.. أخيراً
يتحقق هذا الربح لهم، وهم في نفس الوقت يقدمون خدمة جليلة للحجاج والمعتمرين وقاصدي المسجد الحرام، وهو ما لم يكن ليتحقق في وجود تلك الأبنية القديمة والمتهدمة والشوارع الضيقة والمتلاصقة وانعدام الخدمات العامة في هذا الجزء الهام من المنطقة المركزية في مكة المكرمة. لقد آمن المعترضون والذين وقفوا في وجه المشروع باعتراضاتهم وشكاواهم للمسؤولين، أخيراً، بأن التطوير هو الاستثمار الحقيقي المؤدي إلى النجاح في تحقيق مصلحة عامة للوطن والمواطنين. وقد حفزنا هذا النجاح الباهر إلى التطلع إلى مشاريع اخرى في نفس المنطقة.
تطويرات إبداعية للمشروع
وقد قام مشروع شركة مكة للإنشاء والتعمير على تطويرات إبداعية غير مسبوقة، وهي:
1.الإطلالة على المسجد الحرام والكعبة المشرفة، حيث نجحنا بفضل الله تعالى على وضع التخطيط الهندسي وزوايا الأبراج السكنية في المعمار بحيث تحقق للمجمع إطلالة على المسجد الحرام بنسبة 85%.
2.المحافظة على التراث المعماري بحيث جعلنا الرواشين هي القاعدة الأساسية في النوافذ المطلة على المسجد الحرام.
3.مصلى متصل مع الحرم. وقد تكون هناك فكرة بسيطة لا يتنبه لها المعماري، ولكن لها فائدة عظمى في تحقيق أهداف نبيلة ومفيدة لسكان هذا المجمع وقاصديه، والذين بذلوا الجهد والمال في هذا الموقع التأمين ليؤدوا نسكهم وصلواتهم. فقد يسرنا لهم الصلاة مع الجماعة في المسجد الحرام، وفي مساكنهم، وذلك بتخفيض قاعدة الشباك من 90 سم (كما هو معتاد) عن أرض الغرفة، إلى 20 سم. وبذلك يمكنهم مشاهدة المصلين في المسجد الحرام ويكتب لهم ثواب الصلاة مع الجماعة.
4.إيجاد مصلى بدور كامل في المجمع يستوعب 20 ألف مصلي مع دورات المياه والميضاءات اللازمة له، وهذه غير موجودة في جميع المجمعات السكنية والتجارية حول الحرم.
5.توفير 40% من المياه المستهلكة وذلك بإعادة تدوير مياه الوضوء ودش الاستحمام وعمل شبكة خاصة بها حيث يتم تجميعها وتعقيمها ضم ضخها الى صناديق الطرد (السيفون) وبذلك نوفر 40% من المياه المستهلكة.
6.إيجاد ساحة فراغ بين الأبراج وذلك لتحسين منظر الإطلالة على الحرم الشريف. كما تم وضع نافورات وشلالات مائية لتضفي على المجمع جمالاً وبهاءً. وهذا الفراغ يتكلف سعر المتر فيه ما لا يقل عن نصف مليون ريال يمثل تضحية من شكرة مكة للإنشاء والتعمير لنكون من اصدقاء البيئة. وذلك بجانب ما وفره المشروع في المياه بمعدل 40% في الإبداعية المذكورة سابقاً وهذا قليل من كثير مما تتميز به أبراج شركة مكة السكنية والفندقية.
إن كل هذه الإبداعات تم نجاحها بفضل الله في تحقيق الأهداف وكانت صورة مبهرة لجميع المستثمرين الذين أقتنعوا بها وبدأوا بتنفيذها في عمائرهم. حتى المصليات التي لم تكن مسبوقة في عمائر الجيل السابق إقتنع بها المستثمرون في عمائرهم الجديدة، ولكن بصورة أقل سخاءً في المساحة.
تدوير المياه يصبح قانوناً
أما تدوير المياه وتوفير 40% منها، فقد صدر تعميم معالي وزير المياه والكهرباء بتاريخ 30/ 12/ 1428هـ، المستند إلى قرار مجلس الوزراء رقم 228 وتاريخ 29/ 8/ 1429هـ، المتضمن أنه على كافة الجهات الحكومية المؤسسات والهيئات العامة والمراكز والمجمعات السكنية او التجارية أو التعليمية أو التجارية أو التعليمية أو الصناعية الحكومية وغير الحكومية الإلتزام بتنفيذ شبكتين لتدوير المياه عند وضع المواصفات والمخططات لبناء منشآت لها جديدة على ألا توصل خدمة الماء والكهرباء للمخالف. وقامت الوزارة باعداد دليل إرشادي بعنوان (الدليل الإرشادي لإعادة إستخدام المياه الرمادية).وبذلك فإن مشروع شركة مكة للإنشاء والتعمير وتطوير والمناطق العشوائية فيه أصبح سابقة ونموذجاً ناجحاً يتبعه بعض المستثمرين بالتنفيذ عن قناعة حينا، وبأوامر حكومية حيناً آخر.
مخطط جديد لكامل المنطقة المركزية
لقد أثبت المشروع أنه فكرة رائعة من حيث الابتكار، وفكرة جديدة من حيث التصميم، وفكرة علمية تقنية من حيث تدوير المياه وتوفير 40% من حجم الإستهلاك، وأسلوباً رائعاً باحياء التراث مع مزاوجته بالتقنية الحديثة.هذا النجاح في الإقناع والتخطيط والتنفيذ فتح الآفاق أمامنا لطموحات في تعميم هذا التطوير على كامل المنطقة المركزية وعملنا مخطط يصور الكيانات لهذه المجمعات حول الحرم ومراحل التنفيذ.. وتم عرض هذا المخطط على خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله وأبدى حماسه ودعمه لهذا التوجه وهذه الأفكار.
جائزة عالمية للمشروع
حصلت شركة مكة للإنشاء والتعمير على تقدير عالمي جديد، إذ فازت ممثلة في المركز التجاري الأول لها، على جائزتين عالميتين من منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة وبلدية دبي، كأفضل الممارسات في تحسين ظروف المعيشة وتطوير المناطق العشوائية وترشيد إستهلاك المياه، كتجربة رائدة بالمملكة العربية السعودية.وقد تم الإختيار من قبل لجنة تحكيم دولية متخصصة ومحايدة بعد المفاضلة بين 650 مشروعاً في 140 دولة.
هدف الجائزة
وتهدف الجائزة إلى تعريف دول العالم بهذه المشاريع والخلاقة ليتم تبنيها وتنفيذ مشاريع مماثلة لها في دول أخرى، وذلك عبر عرضها من قبل المختصين ببرنامج الأمم المتحدة في المؤتمرات والندوات العالمية، وطبعها على شكل كتيبات لتعم الفائدة للجميع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *