بانوراما

الأطفال.. عندما يضحكون بصوت عال

توم ستافورد
ما الذي يدفع الأطفال الرضع للضحك بصوت عالٍ ردا على مزحة ما، مع أنهم ليس بمقدورهم -على الأرجح- فهم مثل هذه المزحة؟ يرى توم ستافورد أن إجابة هذا السؤال ربما تكشف عن أمور كثيرة تتعلق بالكيفية التي تتكوّن بها عقولنا.
ما الذي يدفع الأطفال الرضع للضحك؟ ربما يبدو هذا التساؤل واحدا من بين أكثر الأسئلة ذات الطابع الهزلي أو المرح التي يمكن لباحث أن يسعى لكشف أسرارها. لكن ثمة سببا علميا حقيقيا يقف وراء سعي الباحث كاسبار أديمان للتعرف على إجابة ذلك السؤال.
على أي حال، لم يكن أديمان هو أول من طرح ذاك السؤال. فالعالم الشهير تشارلز داروين درس الضحكات التي كان يطلقها ابنه الرضيع، كما أن الباحث النفسي البارز سيغموند فرويد وضع نظرية مفادها أن نزوعنا للضحك ينبع من رغبة ما في الإحساس بالتفوق، إذ يُفترض في إطار هذه النظرية أننا نستمتع برؤية معاناة الآخرين.
ومن بين الأمثلة الجيدة في هذا الشأن، كوننا نضحك عندما نرى شخصا ما يقع على مقعدته على نحو هزلي مُبالغٌ فيه أو حينما نرى بعض الحوادث، وذلك لأن هذه الأحداث تقع لسوانا وليس لنا.
ومنذ عقود طويلة، رأى عالم النفس البارز في مجال التطور الإنساني جان بياجيه أنه بالإمكان الاستفادة من الضحكات التي يطلقها الأطفال الرضع للتعرف على ما يدور في خلدهم. فإطلاق المرء العنان لضحكاته بعد سماعه مزحة ما يستلزم استيعابه لهذه المزحة بقدر محدد.
ويمكن القول إن الدعابة الجيدة هي تلك التي توازِنُ ما بين كونها مفاجئِة ومحيرة ومربكة تماما، وكونها متوقعة ومملة. واعتبر بياجيه أن دراسة الأسباب التي تحدو بالرضع للضحك يمكن أن تُشَكِّلُ من هذا المنظور وسيلة فعالة لإلقاء نظرة ثاقبة على الكيفية التي يفهمون من خلالها العالم ويستوعبون حقائقه. ولكن على الرغم من أن هذا العالم البارز اقترح تلك النظرية في أربعينيات القرن الماضي، فإنها لم تُختبر بعد كما ينبغي.
علاوة على ذلك، فإن هذا الموضوع قوبل بتجاهل من قبل علم النفس الحديث، رغم أنه قد حظي بدراسة بعضٍ من أكثر الباحثين شهرة على الإطلاق.
وفي الوقت الراهن، يعمل كاسبار أديمان، الباحث في كلية بيركبيك للدراسات المسائية بجامعة لندن، على تغيير هذا الوضع؛ إذ يرى أن إجراء دراسات حول الضحكات التي يطلقها الرضع سيجعل بمقدورنا أن نتعرف وبدقة على كيفية فهمهم وإدراكهم للعالم.
وفي العام الماضي، طرح أديمان على المؤتمر الدولي للدراسات الخاصة بالرضع الذي عقد في برلين، النتائج الأولية التي خلصت إليها دراسة – هي الأكبر والأكثر شمولا من نوعها في العالم – أجراها حول الأسباب التي تدفع الرضع للضحك.
فمن خلال موقعه الإلكتروني، استقصى أديمان آراء أكثر من ألفٍ من الآباء والأمهات من مختلف أنحاء العالم، حول التوقيت الذي يضحك فيه أطفالهم، وأين ولماذا يضحكون.
وإضافة إلى أن موضوع البحث نفسه مبهج للخواطر، جاءت نتائج الدراسة لتثلج الصدر؛ إذ أظهرت أن الطفل الرضيع يبتسم للمرة الأولى بعد نحو ستة أسابيع من ولادته، ويطلق أولى ضحكاته بعدما يتجاوز عمره ثلاثة شهور ونصف الشهر تقريبا.
(رغم ذلك فإن هناك من الأطفال الرضع من يستغرق نحو ثلاثة أضعاف هذه المدة لكي يطلق ضحكته الأولى، ولذا لا تقلق عزيزي القارئ إذا ما كان عمر طفلك قد تجاوز فترة الثلاثة شهور ونصف دون أن تنطلق ضحكاته حتى الآن).
ومن بين الطرق المفضلة التي تحقق نجاحا مؤكدا فيما يتعلق بإضحاك الأطفال، ممارسة لعبة تُدعى (بيكابو) أمامهم. ويُخفي من يمارس هذه اللعبة من البالغين عينيه على نحو هزلي، وهو يجلس أمام الرضيع، وكأنه يخفي نفسه عنه، ثم يكشف عنهما بشكل مفاجئ قائلا (بيكابو) حتى يثير ضحكاته. رغم ذلك، فإن مداعبة جسد الرضيع (أو دغدته) شكلت أكثر سبب منفرد ذُكر باعتباره عاملا أثار ضحك الأطفال الرضع.
الأكثر أهمية في هذا السياق؛ أن إجابات الآباء والأمهات عن الأسئلة الواردة في تلك الدراسة كشفت عن أن الرضع، ومنذ اللحظة الأولى التي يصدرون فيها ابتسامات ولو خافتة، يطلقون هذه الابتسامات بالتزامن مع إطلاق المحيطين بهم لضحكاتهم، ولذات الأسباب التي تدفع هؤلاء للضحك.
وهنا يمكن القول إن إحساس الرضيع بأن جسده يتعرض للدغدغة أو رؤيته لشيء ما يختفي من أمامه أو يظهر على نحو مفاجئ، ليسا كافييّن وحدهما لدفعه للضحك، بل إن مثل هذه الأمور لا تكتسب طابعها المثير للضحكات، سوى عندما يراها الرضيع صادرة عن شخص بالغ يقوم بها خصيصا من أجله.
ويكشف ذلك عن أن الرضع يتسمون – هم والأسباب التي تدعوهم للضحك – بطابع اجتماعي، قبل وقت طويل من شروعهم في السير أو الكلام. ولذا فإن الرضيع الذي يضحك عندما تُدغدغ جسده يُقْدِم على هذا لأنك تقوم بذلك من أجله، وليس فقط لشعوره بأنه يُدغدغ.
ليس ذلك فحسب، بل إن الرضع لا يميلون للضحك عندما يرون شخصا ما يسقط أرضا، بل إن احتمالية انخراطهم في الضحك إثر سقوطهم هم أنفسهم أرضا، تزيد كثيرا عن إمكانية إطلاقهم لضحكات عند رؤيتهم لشخص آخر يتعرض لمثل هذا الموقف.
علاوة على ذلك، فإن إمكانية انخراط الرضع في الضحك تزيد بشكل كبير إذا ما كانوا بصدد رؤية أشخاص سعداء، وليس عندما يرون هؤلاء الأشخاص وقد غمرهم الحزن، أو تلقوا مفاجأة غير سارة.
وبناء على هذه النتائج، فإن النظرية التي وضعها فرويد تبدو خاطئة تماما. لكن على أي حال، فإن هذه النظرية قد وُضعت استنادا على نتائج مقابلات أُجريت مع أشخاص راشدين في عيادة الطبيب النفسي، ولم تعتمد على أي شكل من أشكال الدراسة الدقيقة للغاية ذات الطابع المنهجي التي جرت على أطفال بالفعل.
ورغم أن الآباء والأمهات أفادوا بأن الضحك الصادر عن الرضع من الذكور يفوق قليلا مثيله الذي تطلقه الرضيعات، فإن كلا الجنسين يعتبر الأب والأم مثيريّن للضحك بقدر متساوٍ.
على كل حال، فإن أديمان لا يزال يواصل جمع البيانات، ويأمل في أن يتمكن – حينما تصبح نتائج الدراسة أكثر وضوحا – من استخدام التحليل الذي استنبطه في هذا الشأن، لإظهار كيف يمكن من خلال دراسة الضحكات التي يطلقها الأطفال تتبع تطور فهمهم وإدراكهم للعالم، وكيف يمكن – على سبيل المثال – أن تتراجع أهمية شعور الرضيع بالمفاجأة في مقابل تزايد أهمية إحساسه بالترقب، وذلك حينما تبرز للعيان قدرته على تذكر الأشياء.
وبرغم الفوائد العلمية الكامنة في دراسة الموضوع الخاص بضحك الأطفال الرضع، فإنه يلقى «تجاهلا يثير الاستغراب» كموضوع بحثي، وذلك على حد تعبير أديمان. ويعود ذلك جزئيا إلى صعوبة دفع الأطفال للضحك بداخل المختبر على نحو يُوثق بصحته علميا، وذلك رغم أن أديمان يعتزم معالجة هذا الأمر في المرحلة التالية من مشروعه.
لكن الرجل يرى أن من بين الأسباب الأخرى التي تقف وراء تجاهل هذا الموضوع هو أنه لا يُعتبر مسألة يَجْدُرُ بالعلم «الحقيقي» استكشاف آفاقها وسبر أغوارها. ويأمل أديمان في دحض مثل هذا الحكم المسبق؛ فدراسة الضحك – في نظره – جدٌ لا هزل فيه ولا مزاح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *