عبد المنعم إبراهيم خضر
إدريس محمد جماع ذلك الشاعر السوداني الفذ وأحد فحول الشعراء في العصر الحديث , حباه الله بالموهبة وملكِّه ناصية البيان فأبدع شعرا أدهش العلماء والنقاد فكان طابع شعره يغلب عليه التأمل والحب والجمال والحكمة . فصنف من شعراء الجمال بالدرجة الأولى.
عانى كثيرا من مرض نفسي أصابه آخر عمره ولازمه حتى وفاته, ورغم مرضه كان يقرض الشعر فالعاطفة جياشة واللهجة صادقة والموهبة متجذرة في داخله.
اهتمت الدولة على – أعلى مستوياتها – بصحته فأرسل إلى لبنان للعلاج أيام حكومة الفريق إبراهيم عبود.
ومن المواقف المشهودة في حياته يحكى أنه عندما قرر له العلاج خارج السودان وفي بريطانيا تحديدا , وفي مطار الخرطوم حيث المغادرة رأى امرأة جميلة فأطال النظر إليها وعندما غضب زوجها وحاول منعه أنشد جماع قائلا :
أعلى الجمال تغار منا .. ما ذا علينا إذا نظرنا؟
هي نظرة تنسي الوقار وتسعد الروح المعنَّى
دنياي أنت وفرحتي ومنى الفؤاد إذا تمنى
أنت السماء بدت لنا واستعصمت بالبعد عنا
وانتشرت هذه الأبيات وذاع صيتها وقيل إن الأديب المصري الكبير عباس محمود العقاد سمع بها وأعجب بها أيما إعجاب , وعندما سأل عن قائلها وعرف أنه مريض نفسيا وملازم مستشفى الأمراض العقلية , قال هذا هو مكانه الطبيعي لأن هذا الكلام لا يقوله إنسان عاقل.
وفي لندن وقعت في مصيدة شعره ممرضة بريطانية في المستشفى الذي يتلقى فيه العلاج , وكانت ذات عيون جميلة فاضطرت أن تلبس نظارة سوداء لتخفي عينيها من نظراته المتلاحقة لها . فأنشد فيها بيتا من الشعر :
السيف في غمده لا تخشى مضاربه
وسيف عينيك في الحالين بتار
فترجم بيت الشعر للممرضة فبكت من شدة التأثر .وصنف هذا البيت من أبلغ الشعر في الغزل في العصر الحديث.
هكذا عاش ومات شاعر الجمال إدريس جماع ينثر الإبداع ليسعد الناس بشعره ويشقى هو بمعاناة المرض حتى مات , فلخص كل ذلك في بيتي شعر تحكي مرارة المعاناة التي يعيشها :
إن حظِّي كدقيق فوق شوك نثروه
ثم قالوا لحفاة يوم ريح أجمعوه
عظم الأمر عليهم ثم قالوا أتركوه
فمن أشقاه ربه كيف أنتم تسعدوه