استجواب الأرشيف

يوميات حاج.. على ثرى مكة والمشاعر (2)

يواصل ذلك الحاج في طرح ذكرياته في أيام الحج .. فبعد ان متع خافقه بتلك المشاهد الطاهرة وعاش في روحانية باذخة . ها هو يذهب الى هناك .. حاملا ذلك اللقب الجميل – يا حاج
ها.. كم هي كلمة أخاذة “ياحاج” فتح عينيه إذن هذه المدينة الساكنة شعر بسكون غريب يملأ قلبه وبهدوء أكثر يملأ عليه كل تفاصيل نفسه هذه الوجوه هذه الأحياء تذكره ما قرأه ذات يوم :
إذا زرت بعد البيت قبر محمد
وقبلت مثوى الأعظم العطرات
وفاضت من الدمع العيون مهابة
لأحمد بين الستر والحجرات
وأشرق نور تحت كل ثنية
وضاع أريج تحت كل حصاة
أغمض عينيه أخذته هذه “المعاني” المعطرة بأريج الذكرى.
هذا الشارع، ذلك الرجل الذي يمسك بين كفيه مجموعة من الريالات وهو يلعب بها وصوتها في أذنه له رنين، تحسس جيبه ذهب إليه “ليصرف” بعض النقود لديه، لمحه وهو يغطي النقود بقماشة خفيفة ذاهبا إلى المسجد، أخذه المنظر كيف يترك كل هذا هكذا بلا حراسة؟.
(9)
** وقف أمام القبر الشريف.. ذاب في داخله كل شيء. تساءل هل هو في حلم أم في حقيقة أنه هو لا غيره يقف في هذا المكان الذي طالما تمنى أن يراه.
شعر أن كل ما حوله يشده إلى مزيد من الاستغراق تذكر والدته التي كثيرا ما تمنت أن تكون في هذا المكان قبل أن تموت، تخطى أكثر من واحد، كاد يتعثر في ذلك الذي أسند ظهره على أحد أعمدة المسجد مادا قدميه أمامه.. بصعوبة بالغة وجد لنفسه مكانا في الروضة الشريفة، يكاد يذوب حقيقة في داخله، حوله دوي كدوي النحل فهذا يقرأ القرآن وذلك يدعو وصوت شيخ يلقي درسا في مجموعة تحلقت حوله.
صوت المؤذن يشق قلبه، الصفوف المتلاصقة والمتتابعة جعلته يتساءل لماذا نحن ضعفاء وهذه الكثرة الكاثرة التي نحن عليها، طاف بذلك القول:
شعوبك في شرق البلاد وغربها
كأصاحب كهف في عميق سبات
بإيمانهم نوران كتاب وسنة
فما بالهم في حالك الظلمات
نعم هذه الكثرة الكاثرة التي نحن عليها. وبهذه الروح التي تجمعنا بهذه الألوان والمشارب، قتل هذا التساؤل في داخله عندما تذكر الحديث الشريف “إنكم غثاء.. كغثاء السيل”.
أخذ طريقه بين الصفوف والكتل البشرية المتلاطمة وهو يخرج من المسجد، اختلطت أصوات الباعة بأصوات الزائرين. جموع منهم ذهبوا إلى البقيع، وآخرون يمتطون الحافلات في رحلات إلى الأماكن الأثرية والتاريخية، بهدوء امتطى أحدها، شقت به طرقات المدينة.. هذه العمارات الكبيرة التي يراها أدهشته تمنى لو أنه شاهد تلك الشوارع الضيقة ذات المباني القديمة التي طالما سمع عنها من والده.
(10)
كانت “المساحة” المغطاة بهذه الشمسية المتحركة تشعره بالارتياح، أمامه الروضة الشريفة المزدحمة بالمصلين والركع السجود.
جينا على روضة هل من الجنة
فيها الأحبة تنول كل ما تتمنى
ساقته قدماه إلى خارج المسجد حركة الناس حول الحرم متصاعدة فهذا بائع للسبح وآخر للذهب وثالث يبيع أنواعًا من “الزرابي” توقف أمام بائع “الفصوص” هذا يدر اللبن وهذا عن العين، ضحك في داخله وهو يستمع إلى محاولة البائع في إقناعه بما يقول وقف أمامه. هذه مجموعة من “السبح” مد يده إلى أشكال “الخواتم” استرعى انتباهه أحدها أدخله في “خنصره” راح يقلب كفه وهو يتملاه، أراد أن ينزعه ليعيده مكانه.. لكن البائع الفطن أقسم عليه أن لا ينزعه أنه هدية منه إليه. حاول ثنيه عما اعتزمه عليه فشلت كل محاولاته.
“صحيح إنكم يا أهل المدينة” شطار. هكذا ردد لكنه ابتاع عشرة من الخواتم ومثلها من السبح، تخطى مجموعات من الحجاج يفترشون الأرض أمام باب السلام، لغاتهم مختلفة ولهجاتهم أكثر اختلافا، تساءل ماذا يجمعهم في هذا المكان وهم في هذا التفاوت في السحنات واللغات؟ ابتلع ريقه بصعوبة عندما تذكر الحال الذي عليه المسلمون في أيامهم هذه مع هذه الكثرة الكاثرة منهم.
ذهب إلى مسكنه، تمم على أشيائه.. غدًا زيارة المشاهد التاريخية والأثرية ولابد من النوم المبكر، سعال “الحاج” العجوز النائم بجانبه يزعجه، انتصف الليل والنوم خصمه هذه الليلة، لاحت له صورة أبنائه، أمه، وأصدقائه الذين سوف يطلقون عليه عند عودته لقبًا عزيزًا عليه “يا حاج” سرقه التذكر لم ينتبه إلاَّ على صوت المؤذن لصلاة الفجر.
نواصل الجمعة القادمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *