(1)
•• هذه جدة بأنوارها المشعة، صوت الملبين من حوله في الطائرة يشعره برهبة اللحظة، شد “الإحرام” على كتفه راح يحدق بنظره من خلف الزجاج لهذه الأنوار من تحته كأنها “فرشة” متلألئة، بدت حركة السيارات في الشوارع تتضح مع اقتراب الطائرة من الأرض.. يا قصر المسافات. تذكر أول مرة يركب فيها طائرة كان ذلك يوما بعيدًا جدًا. كانت دعوات أمه التي لم تكن تتصور بعده عنها وفي هذا -الصندوق- الطائرة لا ينساها. كانت ليلة سفره متعلقة به لا تريده أن يسافر خوفا من المجهول. ضحك في نفسه وهو يتذكرها الآن. لقد أصبح استخدام الطائرة من أبسط الأشياء.
تنبه من سرحانه بوقع عجلات الطائرة على الأرض وتكبير الحجاج يتعالى. راح يكبر هو الآخر. تلبسه إحساس غامر بالرهبة هذه أول مرة يصل فيها إلى هذه الديار. أول مرة تكتحل عيناه بهذه الأرض. أخذ مكانه في “الطابور” أمامه. نظراته إلى البعيد. الواقف خلفه يدفع به إلى الأمام. يتقبل منه ذلك في هدوء. وجد نفسه وجها لوجه أمام شاب ابتسم في وجهه شعر بارتياح لا يعرف ما سببه مد إليه جواز سفره، رحب به ختم “الجواز” في لمح البصر. استقبله شاب آخر، ها ياحاج الحمد لله على السلامة.
تمتم ببعض كلمات لم يثنيها كان مأخوذا بما يرى هذه الكتل من الحجاج كيف يتم التصرف معهم؟.
عجيبون أنتم ياسعوديون. هكذا راح يردد في داخله بعد دقائق كان يركب “الحافلة” تأخذه الى “مكة” مع اقتراب الحافلة يزداد توترًا ويزداد رهبة. ياه بعد هذا العمر الطويل تتحقق الأمنية. بدا له الطريق طويلا حتى الوصول الى “مكة” هنا ينطبق ذلك القول ويكون أكثر صحة لا بد من “مكة وإن طال السفر”.
(2)
•• راحت “الحافلة” تدخل إلى الشوارع المكتظة بالسيارات وبالناس توقفت، هبط مع الهابطين حمل “حقيبته الصغيرة” سريعًا ما تخلص منها في سكنه المعد سلفًا، الذهاب الى “الكعبة” هو كل ما يشده يريد أن يراها بعينه المجردة يريد أن يمسك بأستارها، هناك عند الملتزم يريد أن يمرغ خديه على جدارها، كان يجري لم يكن يمشي، عند باب السلام توقف يلتقط أنفاسه.
دخلنا باب السلام
غمر قلوبنا السلام
عدد نجوم السما
طاير علينا يطوف
ألوف تتابع ألوف
طائر يهني الضيوف
بالعفو والمرحمة
خطا خطواته السريعة إلى “الكعبة” انحشر في هذه الحشود من الطائفين لم يشعر بالزحام كأن أقدامه ليست على الأرض كان سابحا لا ماشيا حاول الوصول الى لمس “الكعبة” فلم يستطع. حاول أكثر من مرة ولكنه لا يستطيع الوصول كان إصراره عجيبا في آخر مرة تمكن من الوصول أمسك بالستارة بشدة، راح يمرغ وجهه فيها واخضوضبت عيناه بالدموع بعد لحظات، فاق مما هو فيه أحس بارتياح لم يعرفه طوال حياته.
ذهب الى مقام ابراهيم أدى ركعتي الطواف جلس يتأمل هذا البيت العتيق انه يراه رأي العين بل أمسك به لتوه، ذهب الى زمزم أراد ان يغتسل بها راح يصب الماء على كل جسمه.
على صخرة الصفا وقف مبتدئا سعيه كان سيلا جارفا أمامه بين الخطين الصفا والمروة بدأ المسير وهو لا يكاد يصدق نفسه انه هنا في هذه الديار.
ذهب الى مسكنه وهو يكاد يطير فرحا كانت ليلة ولا كل الليالي إنها ليلة العمر وغداً الى منى غدا يوم التروية هكذا راح يردد
(3)
•• هذا يوم التروية اليوم الذي ذهب فيه قائد هذه الأمة صلوات الله عليه وسلامه إلى منى ليبيت فيها ليلته ومعه جموع “المسلمين” لتروي جمالهم ويتزودوا بالماء فيملأون “قربهم” استعدادا للرحيل من صباح الغد الى “عرفات” الله ليقضوا يومهم هناك في الموقف الحرام. هذا اليوم هو يوم التزود بالماء ليوم التزود الأكبر وأن خير الزاد التقوى.
كان يتخيل ذلك الموكب المهيب و “رغاء الإبل” يشق أذنيه. وتلك الأكتاف المتزاحمة حوله وهو في مقدمتهم ذاكرا مهللا ومكبرا وملبيا في خشوع وسكون وإخبات، وكانوا من حوله كالبدور الزاهية فهذه “حجة” ليست كبقية الحجج القادمة ولم يسبقها إلا حجة العام الماضي العام التاسع للهجرة حيث فرض “الحج” ها هو يقود الحجيج معلمًا إياهم نسكهم وضروريات وأسس حجهم ليكون لهم طريقا أبلج واضحا ومنبرا لا لبس فيه.
كان “المشهد” ذلك كأنه يراه رأى العين. فجأة تنبه الى تدافع هذه الكتل البشرية وهي تتزاحم في الذهاب الى “منى” تخطو على هذه الخطى لتعيش تلك المشاعر الفياضة مترسمة خطى الهادي البشير لتكون اكثر التصاقا بكل معاني الخير وكل سبل الفلاح وهي تؤدي هذا النسك “فلا جدال في الحج” ليكن كما هو ذلك المسلم الذي قطع الفيافي بعد أن ودع الأهل والأحباب لتنعم بهذه الشعيرة. وبهذه الإمكانيات التي وفرت لك لتؤدي مناسكك على خير ما يكون الأداء.
كان سير الحافلات طويلا ومتزاحما يلمح على وجوه هؤلاء السائرين على أقدامهم شغف الذهاب الى “عرفات” كأنهم في رحلة شوق ولهفة لا يشعرون بأي تعب او انهاك أنها رحلة من أمتع الرحلات بحثا عن الأجر والثواب.
(4)
لم ينم “البارحة” كانت كل حواسه “مستيقظة” هذا الصباح بدأ يشرق ضياؤه فراح يلملم ما لديه من اشياء متناثرة حوله. كان الكل بدأ في ترتيب أمتعته هذه الحافلة صوتها ورائحة “العادم” له لذة ما بعدها لذة لا يعرف لماذا غمره هذا الإحساس. يمكن انه لأول مرة يأتي الى هذا المكان هذه “منى” التي عليه ان يرحل منها الى عرفات بدأت الحافلة في التحرك ألصق نظراته بزجاجها راح يتابع تزاحم الحافلات التي تتجه الى مكان واحد هو “عرفات” ياه عرفات:
إلى عرفات الله يا خير زائر
عليك سلام الله في عرفات
ويوم تولي وجهة البيت ناضرًا
وسيم مجالي البشر والقسمات
تذكر ذلك القول الجميل ها هو جبل الرحمة وقد تحول الى بياض تساءل متى وصل هؤلاء الى هذا المكان اعتصر قلبه كأن يدا لا مرئية تقبض عليه اللحظة، خفقاته تتزايد هذا يوم الحج الأكبر، وطأت قدماه الأرض راح يلثمها كأنه في شوق إليها شاكرًا الله على أن بلغه ان يقف هذا الموقف، كانت “الخيمة” المعدة لهم قد امتلأت برفاق الرحلة كان هو في حالة وجد لا يدري بهم. تحلقوا حول ذلك الشيخ الذي راح يدعو الله وهم خلفه يؤمنون كان هو يلتهم كلمات الدعاء التهامًا مع غروب الشمس بدأت الاستعدادات للرحيل الى المشعر الحرام تحركت الحافلة في بطء هذه -الحافلات- متى تصل شاغله السؤال قليلا لكن سرعان ما صرفه ها هو في “مزدلفة” يهبط الحافلة ينقب في الأرض ملتقطا بعض الحصوات، انه يعدها حصوة حصوة. هذه سبع حصوات لذلك الكبير منهم لعنه الله وهذه اثنتان وأربعون لإخوتهن في باقي الأيام، دسها ومضى الى حيث يكون الرفاق.
(5)
هذا التزاحم الذي يراه أمامه جعله أكثر توجسًا يده تقبض على بعض حصوات.. بل هي سبع حصوات عيناه تدوران في محجريهما يريد أن يقرب أكثر لكي يتمكن من إصابة هذا اللعين الذي يرمي رمزه أمامه قبل ان يقتحم هذه المواكب تساءل في نفسه في أسى.
كم مرة رجمته في “داخلي”، وهذا الذي يتسرب بكل عنفوانه في دمي. تساءل بمرارة أكثر ألم استطع أن أقهره وأن أطرده من كل مسام جسدي قبل أن أقذفه بهذه الحصوات، دمعت عيناه تمتم ببعض كلمات وهو يشخص بنظره الى السماء. رفع يده إلى أعلى ليقذف بأول حصاة. شعر أنه لا يقف على الأرض كأن رجلاه في الهواء دارت به الأرض لم يشعر بنفسه قابضا على الحصوات في يده . صمت وراح يتحين الفرصة لكي يصل إليه أكثر.
رغم هذا التزاحم لا بد من الوصول إليه ورجمه انتظر قليلا كانت أفواج من “الراجمين” يأتون ويذهب آخرون راقت له المتابعة. يا الله لماذا لو رجموه في داخلهم لتخلصنا من شرور كثيرة وآثاماً كثيرة. تذكر هذه الدماء التي تسيل بفعل هذا “الرجيم” نعم لو رجموه في داخلهم لكفونا هذه الأرواح التي تزهق وهذه الدماء التي تراق.
اعتصره قلبه من جديد. امسك “بالحصوة” قذف بها أحس بارتياح عندما بلغت الهدف راح يوالي الرجم بسبع حصوات. عاد الى “المخيم” تمدد كأنه يرتاح من أثر الجهد الذي بذله هناك أخذه “النوم” ولكنه كان نومًا عميقًا.
(6)
أخذته خطواته إلى البعيد أراد أن يرى بعينيه ما كان يسمع عنه.
أصوات رغاء الإبل يختلط بثغاء الماعز وقف يتأمل تذكر أول يوم شاهد فيه والده وهو يصحبه إلى “حلقة” الأغنام عندما ابتاع “خروفا” أبيض، غافل والده ليمتطي ظهر “الخروف” الذي قفز به عاليا ليجلد به الأرض. ومن يومها حرم أن يمسك خروفا من ظهره ناهيك عن امتطائه فما أصابه من رضوض لا ينساها.
في اليوم التالي بعد صلاة العيد شعر بكل الشماتة في داخله وهو يشاهد “الجزار” يطرحه أرضا والسكين في يده. ففي اللحظة التي راحت المدية تجري على رقبة “الخروف” غطى وجهه بكفيه ومن يومها لم ير خروفا يذبح أمامه.
كانت “المجزرة” مليئة بالجزارين والمفدين فالكل يريد أن يذبح “فديته أولا” وقف ينظر إلى ما يجري أمامه.. خليط الدماء على الأرض ذكرته بالدماء على أرض “العراق و غزة” المسفوحة على ماذا؟ لا يدري.
عاد من حيث أتى تخطى كثيرا من “الذبائح” رائحة الدم تملأ أنفه، أمسك بقطعة “اللحم” التي ناولها له الجزار مغلفة في كيس “نايلون” عليه أن يسير كل هذه المسافة من “المجزرة” إلى المخيم، راح يدور.. ويدور باحثا عن موقعه لا يعرف كل الخيام في شكل واحد وكل الطرقات متشابهة.. أخذ يتحسس الطريق الذي يوصله إلى مقره، لكن لا فائدة، لمح أحد الكشافة تذكر أن لديه “كرتا” عليه عنوان الخيمة أوصله “الكشاف” بعد ساعات من اللف والدوران وجد نفسه في مقره منهكا لا يكاد يقوى على الوقوف.
ارتمى على الأرض، لمح على الطرف الآخر من الخيمة أحد الحجاج وهو “يشوي” بعض اللحم، دفع بالقطعة “اللحم” إلى الجمر الملتهب.
(7)
•• هذا اليوم الثالث تشرق عليه الشمس وهو في هذا المكان الضاج بالناس بكل أشكالهم وبكل سحناتهم وبكل لغاتهم وبكل لهجاتهم وبكل ألوانهم أخذته قدماه للتجوال بين هذه الكتل من الناس وبين هذه المخيمات المرصوصة كحبات اللؤلؤ أو كحبات الصدف الأبيض المغسول بماء البحر، توقف تساءل أين هو موقع سوق العرب؟. أو هو شارع العرب بكل ما فيه من زهو الأيام وفرحها عندما كان “الحاج” يأتي إلى هنا وهو غاسل من نفسه كل هموم الدنيا. كان صدى الصوت في داخله ينادي:
هات براد أبو أربعة أسود حلاه بره وواحدة ثلاجة.
ياه.. يا له من نداء تذكر هذا عندما طلب ذلك من “القهوجي” الذي نظر إليه بعين مفتوحة والكمر في وسطه يشد من ظهره الملفوف في فنيلا أبوعسكري وتنسدل على باقي جسمه تلك “الفوطة السمرندى” نظر إليه “القهوجي” بعين مفتوحة كأنه يريد أن يقول له:
اشرب طلبك وورينا عرض كتافك فهذا آخر يوم في هذا المكان ويريد أن يكسب أكثر من الزبائن.
لم يلتفت إليه، راح يتابع حركة الناس من حوله، ويأتيه صوت غناء من طرف الشارع لم يستنكر ذلك فهذه أيام عيد كانت النفوس بسيطة لا تعقيدات وعنعنات.
تنبه إلى صوت صديقه وهو يقول له:
ها.. إلى مكة
رد عليه بصوت خافت إلى مكة.
هذه مكة المكرمة، بكل عفوية المسلم في داخل قلبه الذي يعتصره وهو يحاول أن يلملم أشياءه للرحيل. ألقى نظرة طويلة إلى هذه الجموع التي تحيط بالبيت العتيق وكل واحد منهم في داخله حنين إلى أهله،
ليتذكر الآن أهله، بلده تفاصيل صغيرة كان لا يلتفت إليها قبل أيام الآن تشغل كل تفكيره.
(8)
•• أخذته خطاه إلى ذلك السوق القديم، ابتاع منه ما يريد من هدايا، هذا لابنه وتلك لابنته وذا لوالدته التي طالما أكدت عليه أن يدعو لها عند الملتزم بأن يشفيها الله مما تعاني وأن لا يميتها قبل أن “تكتحل” عيناها بتلك الأراضي المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة.. تذكر أنه سوف يغادر بعد ساعات إلى هناك إلى المدينة التي طالما سمع عنها وعن حميميتها.
غادر سريعا إلى سكنه، بعد أن حرص على أن يشتري كمية من الحمص.. والحلاوة اللوزية والزرمباك، وحمام البر.
لملم أشياءه ليسند رأسه على ظهر مقعد الحافلة ليغفو قليلا.
ياه.. هذا الطريق الممتد بسواده الذي تجلده إطارات هذه الحافلة الكبيرة وهؤلاء الذين اكتظت بهم الحافلة صامتون، ود أن يسأل كل واحد منهم بماذا يفكر الآن، كانت أضواء القرى ومحطات الاستراحة على جانبي الطريق تشعره بكثير من الحيوية، أبناؤه وزوجته أمه منزلهم الصغير كل ذلك تشابك في ذهنه.
هدأ كل شيء داخل الحافلة، ليصحو ورفيقه بجانبه يهزه من كتفه، يا حاج لقد وصلنا.
الى اللقاء في الأسبوع القادم