ملامح صبح

من مذكرات (طائر الشمال) 2/2

يكتبها : يوسف الكهفي

حينها فكرت طويلاً كما يفعل المصلحون في المجتمعات المتخلفة، واهتديت إلى حل ناجع، إذ تذكرت أن التلفزيون يبث يوم الجمعة بعد صلاة العشاء مسلسلاً بدوياً اسمه ” وضحاء وابن عجلان ” من بطولة عبد الحميد مجدوب وسميرة توفيق ” مطربة البادية” وقلت في ذاتي : سأدعو القبيلة إلى وليمة مساء يوم الجمعة وسأضع التلفزيون فوق صندوق دلال القهوة، وأغطيه بقطعة قماش حتى إذا ما حان وقت بث المسلسل سأرفع قطعة القماش فوراً،وبطريقة مفاجئة سأشغل التلفزيون على المسلسل مباشرة وليحدث ما يحدث .

في صباح يوم الجمعة ، توجهت إلى ديوانية عمي التي يحتشد فيها رجال القبيلة لتناول القهوة قبل الصلاة ، وبعد أن ألقيت عليهم السلام ، قلت لهم: اسمعوا ” يا ربع” أعرف أنكم ” زعلانين ” مني، لكن من أجل “شواربكم” سأقلّع التلفزيون، وأدقّ القهوة وأدعوكم اليوم إلى تناول العشاء ، وسأعود “خوش ولد” كما هي “هقوتكم” بي، فقالوا جميعاً وبصوت واحد: كفو كفو من “أهلها وتفعلها”. وفي المساء احتشد رجال القبيلة في ديوانيتي، التي كانت بمنزلة غرفة كبيرة من الخشب مقامة خارج حوش البيت، كما كان يفعل أقراني أبناء البادية في ذلك الزمان، وأخذوا ” يهرجون” عن غزوات أسلافهم ، ويسترجعون أشعار الفرسان و “يطقطقون بمسابحهم “،

وحينما اختلفوا حول إحدى القصص غافلتهم وأزحت بسرعة قطعة القماش عن شاشة التلفاز، وأدرت مفتاح التشغيل ورفعت الصوت قليلاً وكان المشهد ينقل لقطة لبطل مسلسل ” وضحاء وابن عجلان ” أمين عجلان هو الذي يقوم بدوره الفنان عبدالمجيد مجدوب، وكان يمتطي حصانه ويجندل الأعداء ، ويصيح صيحات الحرب ، بينما معشوقته ” وضحا” والتي تقوم بدورها الفنانة “سميرة توفيق” تزغرد له قرب بيت الشعر وفجأة قطع رجال قبيلتي المتحلقون في الديوانية حديثهم،

وأنشدّوا بدهشة مذهلة إلى ما يحدث أمامهم في الشاشة الصغيرة وأخذ بعضهم يشجع البطل، وآخر يحذره من الفارس الذي جاء يطعنه من الخلف، وكان عمي هو أكثر الحاضرين انفعالاً مع ما يحدث أمامه، بل انه أخذ ” ينخى” البطل، ويقول له: عشت لا شُلّت يمينك ” ايه ايه ايه ايه ” وفي نشوة انفعال ضيوفي مع المسلسل قمت بكل لؤم مصطنع وأطفأت التلفزيون، فأخذوا يصرخون بي ” لأ لأ لأ” , دعنا ” نشوف” وهنا حانت الفرصة المناسبة، وقلت لهم بصوت مسموع يا أبناء العم هذا هو التلفزيون هل هو مفيد أم ضار؟ فصاح أغلبهم ” لا بالله انه زين” شغله، شغله، فشغلت التلفزيون ثانية،

وكانت وضحا ” سميرة توفيق” بجمالها الأخّاذ وعينيها الفاتنتين التي تفخر بها بعض الأحيان، تتغنى بحب فارس العشيرة ابن عجلان، فكاد رجال قبيلتي أن يصابوا بالاختبال للفروسية والجمال فقلت لهم ثانية هذا هو التلفزيون، استمر المسلسل بأحداثه المشوقة، التي نقلت ضيوفي إلى عالمهم المفقود ” الصحراء والمضارب والفروسية والجمال واندمجوا مع أحداث المسلسل ، حينها قال أحدهم، والذي أصبح صديقاً حميماً لي طوال حياته إلى أن توفاه الله وكان موجهاً كلامه إلى رجال قبيلتي: أما قلت لكم: إن سليمان ” نشمي وعاقل ويفهم أكثر مما نفهم” , ولو لم يجد بالتلفزيون ” فود ” لما اشتراه؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *