منذ انتهائي من إجراء المقابلة الصحفية مع وزير العمل السعودي السابق الدكتور غازي القصيبي يرحمه الله , كنت أفكر جدياً آنذاك في تسجيل اللحظات التي جمعتني به. وذلك أخذاً بنصيحة أحد الأصدقاء الذي حدثني مرة بقوله أننا نعيش لحظات مهمة في حياتنا، يحتاج البعض للعودة إليها في وقت ٍ لاحق ولكنهم لا يجدونها موثقة، وهنا تكمن أهمية توثيق أحداثنا اليومية.
ولا أنسى كذلك تحريض زميلتي الصحفية العزيزة رندة فاروق عبر طاولة الاجتماعات اليومية، عندما سألتني عن سبب عدم تسجيلي لتفاصيل اللحظات التي جمعتني والقصيبي؟ كان في سؤالها دافعاً آخر للكتابة، فقد آمنت بوجود أشخاص يبحثون عن تلك التفاصيل حقاً.
فكانت البداية مع (العكاكيز)!أجل العكاكيز التي لا أعرف حكايتها مع المبدعين أبداً؟ فصديقي الذي لا يعرفني “قاسم حداد” يمتلك عكازاً أقدره بشدة، لأنه يساعد هامة حداد الشاهقة على الاستمرار في الشموخ والسمو. إلا أن غازي القصيبي كانت لديه سلة كبيرة مليئة بالعكاكيز الملونة كذلك، وضعها بالقرب من مدخل المنزل ..
وسألته بفضول شديد حين ذلك (لماذا كل هذه العكاكيز يا سيدي وأنت تمشي على قدميك بشكل طبيعي ولله الحمد؟ ) فقال لي بأنها كلها وصلته كـ هدايا ! لا أعلم حقاً في أي المراحل العمرية يبدأ الإنسان في استقبال العكاكيز كهدايا؟ وهل يتهادى الناس العكاكيز أصلاً؟ سألت هنا وهناك ولم أجد جواباً. إلا أنني وجدت سميح القاسم، والذي كان له منظور آخر في فحوى العكاكيز، ينادي في مكان ٍما بما أسماه بـ (عكاز الروح).
ليبدأ القاسم في شق مفترق آخر من المعاني، ومتى تحتاج أرواحنا للعكاكيز يا ترى؟ وما ألوان عكاكيز الروح وأشكالها؟ بل من يهدينا إياها أصلاً؟. تداخلت عكاكيز القصيبي بعكاكيز القاسم، فصرت أبحث عن العكاكيز في كل مكان لأكتشف ما لم أعرفه عن القصيبي، ولكنني وجدت هناك وفي ركن ٍ قريب في مكتبتي، قصاصة كتبت عليها بخط يدي أبياتاً للشاعر الراحل بدر شاكر السياب وقد قال فيها :
(عكاز في يدي اليمنى،
عكاز بل عكازان ..
تحت الإبطين يعينان جسما ً
من أوجاع
يفنى، طللا يغشاه مسيل
دم وأسير أسير على قدمي،
لو كان الدرب إلى القبر).
تألمت كثيراً، وقررت وقف البحث عن تلك العكاكيز ومدلولاتها ..ولكن العكاكيز وحدها لم تكن كل ما لفت نظري أثناء تلك اللحظات الثمينة في حياتي، فقد جلست بالقرب من الدكتور القصيبي ليكتب لي إهداءً على ديوانه الشعري الأخير (حديقة الغروب).
كتب الإهداء بخطه المنمق المائل، وكنت متلهفة للحصول على ذلك الديوان فهو هدية من القصيبي نفسه! إلا أن الدكتور قد فاجأني بهدية لم أتوقعها أبداً، فقد أغلق القصيبي القلم وأعطاني إياه فأمسكته.
شعرت بالنصر لوهلة، بل شعرت بأنني كنت أحمل كنزاً خاصاً بي. نظر القصيبي نحوي وقال (يسأل الناس دوماً عن القلم الذي يكتب به القصيبي، وها أنت تملكينه الآن. هل عرفت القلم الذي أكتب به؟). ضحكت وأومأت رأسي موافقة : أجل(إنه قلم أبو نص روبيه)صمت لثواني وكأنه يستعيد ذاكرة ما، ثم قال (ظل سمو الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة يتعامل اقتصادياً مع الناس بالروبية حتى وفاته، على سبيل المثال كان يقول ألف ربيه بدلاً من مائة دينار).
ولأنني كنت أعرف بأن الروبية هي العملة الهندية البريطانية التي كانت تستعمل في البحرين قبل الاستقلال، فقد ظللت ممسكة بالقلم الذي بدى للقصيبي رخيصاً في سعره وبدى لي غالياً في معناه.وللحديث صلة العدد المقبل بمشيئة الله..
• شاعرة وكاتبة بحرينية