الثقافيـة

على رصيف الانتظـار

صلاح بخيت – أبوهبة الله

الضوء القادم من البعد يسرع مخترقاً كخنجر حاد أحشاء الظلام المتكدس على أرصفة الانتظار .. الصفير الحاد وجلبة القطار يقتلان بقسوة الصمت الرهيب الجاثم على الصدور .
يأتي القطار .. يقف يزمجر .. يبطئ الخطى .. يسرع ، يختفى عن الأنظار تاركاً خلفه دموع فراق ودموع لقاء تجف سريعاً بعد أن يغيب عن الأنظار .. لكن تبقى دموع لاتجف أبداً وهي دموع العيون الساهرة في ليل الانتظار الطويل ترقب بكل الشوق فجر اللقاء .
الأقدام تسمرت .. تحجرت على الأرصفة .. نال التعب منها كل النيل .. إذا أرادت التحرك تنتزع إنتزاعاً من الطبقات الأسمنتية التي زرعت فيها .. تستريح قليلاً على المقاعد المشتتة في أنحاء المحطة .. لم تعد تجدي هذه المقاعد .. لم ترفع المعاناة من القلوب المنتظرة ، لقد إزدادت عليها أثقالهم لما يحملونه داخل أجسادهم من لهفة حارة وظمأ إلى الغيث الذي تأخر .
ليلة طويلة مملة تمر على أحد المنتظرين ، إنها احدى الليالي الكثيرة التي قضاها طوال عمره في الترقب والانتظار بعيداً متطلعاً بشغف وشوق لفجر اللقاء الذي بات بعيداً .. النعاس يداعب أجفانه يحاول طرده بأطلاق عينيه للتجول عبر أرصفة الانتظار .. فهناك على الأريكة القريبة منه .. عجوز تستند برأسها على كتف زوجها المسن ذاهبة في سبات عميق بعد أن تعبت من الثرثرة عن أبنها العائد بعد فراق طويل وعن شوقها إلى الحفيد القادم معه , وهناك زوجه تملأ الفرحة قلبها وهي تعد الثواني الباقية من عمر ذهب سدى بدون الزوج المسافر إلى عمر جديد سوف يمتلئ بالفرحة مع عودته بينما الطفل الأكبر يلعب بجوارها والصغرى ذهبت تغط في أحلامها .. النعاس يداعب أجفانه يوقظه صوت قهقة مدوية من مكان قريب منه بعد نكتة قالها أحد هؤلاء الملتفين حول أبريق الشاي الذي تربع وسط الدائرة يتبادلونه بلهفة بالغة .. أقترب من مجلسهم وأتخذ له مكاناً فبادرته يد أحدهم بكوب من الشاي الأسود .. تناوله وهو يدفئ به يديه وجلس ينصت إلى أحاديثهم الشيقة التي يحاولون بها قطع وقت لايريد أن يتحرك من مكانه كصخرة عنيدة صلدة ..
مرة أخرى ترتجف الأرض تهتز .. الزمجرة .. الجلبة .. الكل يسرع إلى الأرصفة الرؤوس ترتفع .. تمتشق القامات .. انحشر القطار في المساحة مابين المنتظرين .. اختفى القطار تحت أكوام البشر .. عيناه تحاولان اختراق الجمع المحتشد .. لايستطيع أن يرى شيئاً ..جذب قدميه من قاعدة التمثال التي انتصب عليها طوال الليلة الماضية ونهاره هذا .. تقدم وهو يتابع كل عربة من عربات القطار التي تمر أمامه مع شريط حياته .. كلاهما يمران معا .. سراب فقط .. عيناه جاحظتان تنظران إلى الفراغ المترامي بكل أطرافه داخل هذه العربات المليئة بالبشر .. نعم كل هؤلاء دون مايريده .. حقا سراب .
فقط الأمل .. صرخة ألم عميقة كادت تحطم صدره المغلق على عواطفه كل هذه السنين الطويلة التي مضت من عمره وهو واقف على محطات الانتظار .. ينتظر ماذا ؟ لايعرف هل سيجد ضالته ؟ لايعرف .. هاتف عميق يأتي من البعد يأمره بأن يطرد الملل .. فلم يجد مفراً إلا طريق الانتظار فسلكه عسى أن يجد ضالته .
فقد الأمل .. بل تبدد بين أقدام البشر .. كاد يرجع القههري وهو يحمل بداخله خيبة أمل كبيرة .. هكذا دائماً حياته.. دون أن يشعر نظر إلى العربة التي وقف أمامها .. تسمرت كل أجزاء جسده .. عيناه تحلقان في فرح من الذهول .. إنها أمامه .. إنها أمامه .. سمراء ممشوقة القوام .. غاب بوعيه عن المكان قليلاً .. ذهب إلى أبعد من هذا الزمان .. إلى زمن لم يكن يعيش فيه بجسده بل بروحه .. لم يشعر بعدها بشيء سوى صوت يوقظه منبها إلى اليد التي أمتدت إليه .. شعر بيدها الرقيقة وهي تصافحه .. تحركت عيناه لتصطدم بوجهها القمحي المشوب بسمرة خفيفة .. لم يتكلم .. لم تنبس شفتاه بكلمة واحدة .. (حمدالله على السلامة) وتركا المكان صاعدين سلم جسر يعبر في القطارات . صعدا الجسر معا .. متشابكي الأيدي .. تاركين أرصفة الانتظار خلفهما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *