جدة – حماد العبدلي
يوما بعد يوم، ورغم خدماتها وفوائدها للبشر ، تحولت شبكات التواصل الإلكتروني إلى أداة خطيرة لتفكيك الروابط الأسرية وإضعاف جدار النسيج العام الاجتماعي ، حيث تخلق واقعا سلبيا جديدا ، يزيد في هشاشة العلاقات الأسرية ، لتتسع فجوة التواصل شيئا فشيئا بين أفرادها ، وكأن كلا منهم يعيش بذهنه ومشاعره في جزر معزولة رغم تواجدهم في مكان واحد.
فإلى أين ستختطف تلك التقنيات الحديثة جماليات التواصل الاجتماعي الحقيقي ؟ وما السبيل لمواجهة تلك المخاطر على الأسرة والمجتمع . هذا ماطرحناه للنقاش في التحقيق التالي: نبدأ برصد السلبيات من خلال دراسة حديثة، حذرت من خطورة تأثير مواقع التواصل على العلاقات الأسرية في المجتمع وسحبها البساط من تحت أقدام الأسرة ، حيث كشفت أن الشباب يتعرضون لتشوهات اجتماعية ، حتى بلغ الأمر أن البعض منهم لايمانع من اختيار شريك العمر، عن طريق أحد المواقع إذا ما اقتنعوا به بصرف النظر عن حقيقة ذلك الشخص شابا كان أو فتاة ، وغالبا دون موافقة الأهل.
بينما ذهب شباب إلى أبعد من ذلك في دفاعاتهم عن خياراتهم وقراراتهم الشخصية بالزواج، ووصل ببعضهم التحرر من الضوابط الأسرية ولا يخشون في ذلك لوم أهلهم لهم إذا ما فشلت مثل هذه العلاقة مستقبلا.
وطبقا لنتائج الدراسة، فإن مثل هذا النوع من التواصل المخادع يدمر القيم والعادات الاجتماعية ومنها طرق اختيار شريك العمر ، إلى جانب جعل شباب يعيدون النظر في مفهوم القرابة، وما يتصل بها من علاقات اجتماعية واجبة .
زواج وطلاق
حول ذلك، يقول عبد الرحمن القرني، معلم تربوي: إن قوة تأثير شبكات التواصل، بما فيها الهاتفية على العلاقات الأسرية في زمن قصير، مؤشر واضح على مدى التراجع أو ربما التحرر الذاتي الذي طرأ على التأثير الأسري المتراجع تجاه الشباب وقراراتهم المتعلقة بزواجهم. فالتكنولوجيا الحديثة المتمثلة في وسائل التواصل الاجتماعي سحبت على سبيل المثال البساط من تحت قدمي “الخطّابة” فبعد اتساع دائرة العلاقات الإنسانية، فإن أبرز أسباب الطلاق الحديث هو “الواتس اب” و”الفيسبوك”،
وأشار القرني إلى أن هذا الوضع يستدعي استنهاض مؤسسات المجتمع المدني بوضع اليد على الجرح؛ جراء وجود مثل هذه القضايا التي باتت تهدد بالتفكك الأسري، وتزيد من الجفاف العاطفي داخل الأسرة.
ولفت عبدالله حزام العلاوي، معلم، إلى أن الانفتاح الإعلامي زاد من فجوة الخلافات بين الأزواج؛ كما شجع من جهة أخرى على الزواج من دون الاستناد على أسس والتفاهم ما يستدعي توعية الأسر بالأضرار الاجتماعية والاقتصادية التي تنعكس سلبا على حياتهم.
ويضيف أن كثرة الطلاقات لأسباب سطحية في المجتمع المدني، تنم عن تعرض الزواج للوهن والضعف ، فما له قيمة كبيرة عند الناس يحتاطون له وما كان منخفض القيمة يستهينون به ، موضحا أن اختلال العلاقة بين الرجل والمرأة بشكل خاص تحول لعلاقة تنافس أو استقواء بدلا من التعاون؛ إذ يريد كل منهما فيها إثبات أنه الأقوى برغم أن دوري المرأة والرجل في الحياة عموما، وفي الأسرة خصوصا لا يتعارضان.كما تأتي قضية انعدام ثقة الزوج أو الزوجة بأحدهم جراء استخدام هذه التكنولوجيا، ما يخلق خلافات بينهما.
غابت الزيارات والمجالس
من جانبه، يرى أحمد العلاوي، أن وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة زادت بصورة كبيرة مؤخراً؛ بفضل التكنولوجيا المتقدمة المتوافرة في أجهزة الهواتف النقالة، لافتاً إلى أن هذه الوسائل مثل (فيس بوك وتويتر وواتس آب) تلتهم الوقت بسرعة مذهلة، كما أنها سحبت البساط من وسائل التواصل التقليدية القديمة مثل الاتصالات الهاتفية بأجهزة الهواتف المنزلية واللقاءات المتعارف عليها في المجالس العائلية.
وأضاف قائلاً :” إن وسائل التواصل الاجتماعي، حققت التواصل مع العالم بضغطة واحدة على جهاز الهاتف النقال، خاصة ومتابعة الأخبار والأحداث العالمية ومن خلال هذه الوسائل بات العالم بالفعل قرية صغيرة، لكنها أثرت من جانب آخر على اللقاءات التقليدية، التي كانت تعقد في المجالس وتخصص لها أيام بعينها؛ حيث لم تعد مثلما كان في السابق، ولم تعد لها المكانة القديمة في نفوس الناس”.
وأوضح العلاوي، أن المجالس كان لها دور مهم في السابق فيما يتعلق بدعم التواصل الاجتماعي والعائلي وحل المشكلات وكيفية التعامل معها إلى جانب تدبير وإدارة شؤون عائلات بأكملها، خاصة إذا كانت ترتبط بعلاقات متشابكة مثل القرابة، مضيفاً أن هذه المجالس باتت في طريقها إلى النسيان، ولم يعد أحد مهتماً بحضورها بشكل إرادي إلا لضرورة عائلية قصوى، وبات من النادر أن يجتمع الأصدقاء والأقارب؛ مثلما كان يحدث في الماضي، وإن اجتمعوا فكل شخص مشغول بجهازه.
ويتفق في ذلك أيضا علي القرني الذي أكد أن هذا التطور المتسارع قلب أوضاعا اجتماعية كانت سائدة وتحقق الاتزان ، واليوم نشهد عملية تغيير شاملة في طبيعة علاقات وتعاملات الناس ” محذراً في الوقت نفسه من خطورة أن يؤدي الاستغراق في هذا النوع من التواصل الافتراضي إلى إضعاف وتمزيق الروابط الاجتماعية وزيادة مساحة التباعد الأسري، خاصة في ظل التأثير الملحوظ لهذه الوسائل على طبيعة العلاقات المباشرة بين الأصدقاء وتحويلها من لقاءات مباشرة في المجالس والمقاهي والمحال وأماكن الترفيه إلى حوار افتراضي عبر تكنولوجيا الاتصال الموجودة في الهواتف النقالة.
وأضاف: إن المجالس التقليدية توارت بشكل ملحوظ، وبات انعقادها نادراً جداً، وفي المناسبات شديدة الخصوصية في إطار عائلي ضيق، بعد أن كانت عرفاً اجتماعياً شديد الأهمية في ضبط وتعميق أواصر العلاقات الاجتماعية.
” لافتاً القرني “إلى أن تراجع دور المجالس التقليدية يكمن في تنوع وسائل الاتصال الحديثة المعروفة بخدمات ومواقع التواصل الاجتماعي، وهي في معظمها مجانية الخدمة مما أثر بشكل كبير على طبيعة اللقاءات المباشرة في المجالس التقليدية.وتوفر هذه الوسائل سرعة الاتصال وإنهاء مشقة السفر والتواصل في المناسبات والأعياد عبر تقديم التهانئ والحوارات التفاعلية المباشرة عبر «واتس آب» و«فيس بوك» ولكنها في الوقت نفسه تعمل على إضعاف العلاقات والروابط، وجعلها أقل تماسكاً مثلما كانت عليه في عقود ماضية”.
دردشات في الهواء
الرأي السابق، يؤيده على مفرح الغامدي ، قائلا: إن المجتمع كان يعتبر دور المجالس حيويا، وما كان يجري فيها من حوارات تزيد من عمق العلاقات، والعمل على دفعها إلى الاستمرار وفق قواعد ومنظومة العادات والتقاليد ونشر القيم الأصيلة في المجتمع.” لافتاً إلى أن وسائل الاتصالات الحديثة غيرت كثيراً من ملامح العلاقات الاجتماعية والأسرية والمتمثلة في اللقاءات والجلسات والزيارات المباشرة؛ لأن الجميع بات يعتمد على حل بديل وسهل لهذه القيم والعادات التي تحتاج إلى استعدادات ووقت وتوفير أجواء مناسبة لعقد المجالس، ويتجسد في إدارة حوارات عبر مواقع الدردشة الموجودة في خدمات الهواتف الجوالة.
وبين الغامدي، أن هذه النوعية من التكنولوجيا سهلت الحياة اليومية في كافة صورها، لكنها لن تكون كالزيارات بين الأقارب والجيران لها حميمية وبعد آخر أكثر عمقاً للعلاقات الاجتماعية وحتى في المناسبات كالزواج البعض يعتمد على التواصل الافتراضي عبر مواقع الدردشة الشهيرة، ولم يعد ممكناً بحكم تسارع وتيرة الحياة اليومية أن يجتمع الأهل والأصدقاء في المجالس بالصورة التقليدية القديمة؛ لأن القضية باتت سهلة الحل عبر هاتف محمول صار متوافرا في أيدي الجميع دون أن يتحرك أحد خطوة واحدة”.
ويقول الزميل الإعلامي عبدالله الدوسي: إن وسائل الاتصال خاصة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، أثرت على التواصل المباشر لأفراد المجتمع حتى أصبح كل فرد في الأسرة الواحدة والمجتمع يعيش عالمه الافتراضي الذي يتواصل فيه مع أصدقائه، بعيداً عن اللقاءات والجلسات التقليدية.وأضاف الدوسي:”إن الكبير قبل الصغير قد انجرفوا للتواصل عبر وسائل افتراضية سلبت البساط من تحت أقدام الزيارات وأحاديث المجالس؛ سواء في البيوت أو الأماكن العامة”.
وبين أن الاستغراق في العالم الافتراضي وأدواته المتعارف عليها؛ سواء فيس بوك أو تويتر أو واتساب وهي المواقع الأشهر للتواصل الاجتماعي، بات ظاهرة عامة وتبدو واضحة حيث ينشغل الجميع في التواصل الافتراضي عبر هواتفهم غير متصلين بعالمهم الحقيقي المتواجدين فيه، وحولت هذه التقنية الحديثة المفهوم التقليدي للمجالس إلى متاحف التاريخ ولم تعد موجودة واندثرت تماماً ، مشيرا في الوقت نفسه إلى أن انحسار وتراجع دور المجالس العائلية جاء نتيجة سهولة التعامل مع وسائل الاتصال الحديثة وتوافرها في معظم أجهزة الهواتف المحمولة بما يجعلها متاحة للجميع عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة.
فوائد عظيمة .. ولكن
وكشف عبد الرحمن العبدلي، معلم تربوي عن انعدام الأحاديث «السوالف» كما نقولها بالعامية بين الأصدقاء وداخل الأسرة وباتت تتسم بالجمود والرسمية ويكتفي البعض بالسؤال عن الأصدقاء عبر الدردشة أو الرسائل النصية؛ بينما يستغرقون في التواصل المباشر والمستمر عبر عالمهم الافتراضي بوسائله المتنوعة.وحذر الزهراني في الوقت نفسه من تأثيرات سلبية على الأفراد الذين أصبحوا يعيشون عالماً خيالياً يفصلهم عن الواقع الذي يعيشون فيه، وقد يجدوا أنفسهم مصابين بأمراض نفسية مستقبلاً، ومن بينها عدم التكيف مع الواقع.
وأبان إلى تحقيق التوازن بين العيش في العالمين الواقعي والافتراضي موضحا “أنه لا يمكن إنكار أهمية وسائله في حياتنا اليومية ومدنا بكل ما هو جديد في العالم من أخبار وأحداث وتكنولوجيا تفاعلية، تجعل العالم قرية صغيرة».ولفت في الوقت نفسه إلى أهمية الحفاظ على دعائم الحياة بصورتها اليومية التقليدية، وعدم السماح لوسائل التواصل الحديثة بإلغاء ما تحفل به العلاقات المباشرة في اللقاءات والمجالس التقليدية المباشرة من طقوس ومشاعر إنسانية، تعمق الترابط الاجتماعي، خاصة إذا كنا في مجتمع يفضل العلاقات الاجتماعية المباشرة.