الأخيرة

ذلك الشيخ الشاب أو الشاب الشيخ

** كان هادئاً وهو يدخل مكاتب – الجريدة – حاملاً تحت أبطه مجموعة من الأوراق هي مواد ذلك الملحق الذي كان محل متابعة المتخصصين في موضوعه.. لما يحمله من جدية في الطرح وسلامة في المقصد.. كان شاباً في مظهره وان كان بين جوانحه يحمل خبرة شيوخ من ذلك الزمن الغابر.. الجدية هي طابعه مع أنه يحتفظ في داخله ببساطة ابن – الحارة – الذي لا تفوته لفتات الفتوة الخلوقة .. ذلك الشاب المعجون بتراب ذلك الشارع الذي كم تشققت أقدامه من حدة “حجارته” أو من لسعات حصوات – الحرم – برداً شتاءً أو سخونة صيفاً وهو يذهب الى أحد حلقات الدرس حول البيت العتيق فاكتسب من تلك الحلقات قدرة الدخول في عوالم الفكر التراثي المفتول بقواعد الشريعة ومدلولاتها كل ذلك أعطانا شاباً يحمل على أكتافه تاريخاً تراثياً لكنه لا ينفك عن التعايش مع الحداثة بمفهومها الواضح السليم دون الدخول في عنعناتها واتجاهاتها وما ذهبت إليه عند بعضهم في عالمنا العربي.
***
كان يأتي الى مطابع الجريدة حاملاً بعض ما كان يكتبه وكان أيامها طالباً ذهب الى دراسة الأدب واللغة.. كان أحمد محمود وهو يهز يده بأوراق القصيدة وهو يطلب منه كتابة مقدمة لاحدى قصائد الشاعر الكبير السيد محمد حسن فقي وكله وثوق في قدراته .. وأمام الحاج أحمد كان يقتعد مقعداً قصياً في تلك الغرفة المستطيلة.. ويأخذ في تدوين تلك المقدمة التي تنم عن فهم عميق لمرامي القصيدة وما يريد الشاعر توصيله لتأتي المقدمة لوحة تعبيرية.. غاية في الوصف الدقيق لما تنطوي عليه القصيدة.
لقد كان يأتي الى مكاتب التحرير دون صخب بل يأتي في هدوء ويروح يراقب حركة الزملاء في صمت ولكنه ذلك الصمت الذي يقول فيه صاحبه كلاماً كثيراً دون أن ينطق بكلمة من فيه.
يجلس بجانب ذلك المنفذ الذي يقوم بتنفيذ صفحات – الملحق – فلا تسمع لهما صوتاً فهو من أولئك الذين يستطيعون السيطرة على من يتعاونون معه بأدبه ورقته التي لم تكن مصطنعة بل هي من سلوكه الذي شربه من طفولته فهو صاحب تربية “بيتوتية”.. فهي ليست مكتسبة بل هي أصيلة فيه.
***
كان رئيس التحرير أيامها الأستاذ أحمد محمد محمود يقارن بينه وبين أحد الزملاء في الاهتمام بعمله والحرص عليه فيما الآخر كان لا يعطي ذلك العمل المطلوب منه الاهتمام الناجز المطلوب والذي ضاعت من تحت يديه كثير من المواضيع الأدبية.. ويضرب على صدق رؤيته بقوله إن محمد يعقوب عندما يأتي من مكة المكرمة لمتابعة انجاز ملحق التراث الذي يقوم بإعداده والاشراف على اخراجه ورسم ماكيته وبعد أن يطمئن أن كل ذلك قد تم على الوجه المطلوب يذهب الى مكة وما يكاد يضع راسه على – الوسادة – وإلا ويتذكر أن هناك “همزة” قد سقطت من على أحد الأحرف فيقوم من ساعته ويركب سيارة التي لم يكن يعرف قيادتها ليطلب من أحد إخوته ايصاله الى جدة.. فيدخل على المطبعة ويخرج من “جيبه” حرف الهمزة ويضعها في مكانها ومن ثم العودة الى مكة المكرمة مرة اخرى.. هكذا وصفه أحمد محمود في دقته لعمله واهتمامه به.. وهو وصف صحيح مئة في المئة لتلك الميزة التي كانت احدى طباعه التي اكتسبها من تلك التربية “البيتوتية” الصارمة التي طبعت حركته في الحياة حتى أصبحت من سماته الجدية.. ومع هذا لديه قدرة على استيعاب المزاح الذي لا يخدش حياء ولا يسيل دماً.. انه من أولئك الشباب الجادين في حياتهم الصابرين على كل ما قد يواجههم من صعوبات.
إنه الزميل الدكتور محمد يعقوب تركستاني ذلك الشيخ الشاب أو الشاب الشيخ زاده الله توفيقاً وجمالاً.

One Response

  1. صدقوني ما تلك سوى نفثة عطر من ذلك النهر المسكي !!
    فإذا كانت تلك النفثة العبقرية لم تكن سوى قطرة من ذلك النهر العاطر ؛
    فما بالكم بتلك الأيكة السامقة المباركة التي تشرفت و رفاق دراستي الجامعية بالتحلق تحت ظلالها الوارف ، ننتهل من رحيق زهورها و نستنشق جمال عطرها
    و نتغذى من لذائذ ينعها ، و نروي ظمأ فكرنا من نداها النقي !!
    ما ذقت لذة طلب العلم و البحث في أعماق اللغة الأم ، إلا بغرفات راحتيه الطاهرتين ،
    فأسأل الله العلي العظيم أن يجعل ما له من فضل عليّ و على كل طالب علم و كل قارئٍ لما كتبه و كل مستمع لما نطقه ، في ميزان حسناته و أن تكون شاهداً له لا عليه حين يسئل عن علمه ماذا فعل به .
    و أن يجمعنا بأستاذنا و معلمنا أ . د / الشيخ محمد يعقوب تركستاني
    و أن يبارك له في عمره و علمه و صحته و ذريته و رزقه ،
    وصلى الله وسلم على سيدنا محمد و على آله و صحابته أجمعين
    تقبل تحيتي وسلامي من تلميذك وخادمك يا استاذي الجليل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *