[ALIGN=LEFT]مالك ناصر درار[/ALIGN]
في جميع الآداب العالمية نرى الأب عنصراً أساسياً في الأدب الروائي، نقرأ رواية الأب جوريو للأديب الفرنسي بلزاك، فنرى الأب يتجرع عقوق بناته، وهو شيخ محطم، بعد رحلة كفاح مريرة من أجلهن، ونشاهد مسرحية لير، للأديب الانجليزي شكسبير، فنرى لير يخرج للعاصفة رغم وهن الشيخوخة ويسير تحت الأمطار والثلوج، لأنها أرحم من قسوة بنماته .. بعد أن وزع عليهن مملكته .. ونطالع قصة ناظر المحطة للأديب الروسي بوشكين، فنرى الأب العجوز يذرف الدموع وهو يبحث في كل مكان عن ابنته المحبوبة التي هربت مع ضابط شاب استضافه الأب في بيته واحاطه بالرعاية والكرم .
في هذه الروايات نرى الأب وقد ناله الأذى من الابناء، ولكنه موجود .. وقد يبلغ الأذى درجة التضحية به على مذبح الأبناء، كما نرى في رواية الاخوة كرامازوف، للروائي الروسي ديستوفيسكي، ولكن وجوده يضفي المعنى على اختلاف الأجيال، داخل العمل
الأدبي، فنعرف البذور التي انبثقت منها الجذور .. التي أمدت الرفوع بالثمار، ونعاين حركة التيار من المنبع الى المصب، وهذا ما يجعل الرواية عملا كاشفا لتطور المجتمع وتوالي الأجيال .
ومن يقرأ أدبنا الروائي الحديث يتوهم أننا لقطاء، وتعقد الدهشة لسانه عندما يجد للأب دوراً هامشياً في روايات الدكتور طه حسين، ويصاب بخيبة أمل عندما يفتقد صورة الأب في قصص الدكتور يوسف إدريس، وعندما يطالع أدبنا الروائي من عصفور من الشرق، الى قنديل أم هاشم، الى رواية الطيب صالح موسم الهجرة الى الشمال، يكتشف أن الأب هو الغرب، وأن تمردنا على أبوة الغرب هي التي صنعت حركة الأجيال .
لقد كان لحركة البعث التي قادها البارودي في الشعر أب حاكاه البارودي أو تمرد عليه .. من شعراء المعلقات، وكان لمدرسة الديوان أب تختلف معه هو أحمد شوقي، ثم تغيرت هذه الصورة عندما انتسب الشعراء الى المدرسة الأوروبية الرومانسية، بحثا
عن شعر الوجدان .
وليس عندي شك في أن ادبنا الحديث ظل يفتقد الأب ويبحث عن الأب منذ تمرده على القوالب الأدبية القديمة، وأساليب البلاغة القديمة، فالذين كتبوا بالعربية في قوالب أوروبية تختلف عن شكل المقامة، وانقطعت جذورهم عن عبدالحميد الكاتب في العصر الأموي، والجاحظ، وبديع الزمان الهمذاني عبدالله بن المقفع في العصر العباسي، والذين كتبوا بالانجليزية أو الفرنسية، أو تأثروا بهما، لم يجدوا في شكسبير أو بلزاك أبوة حقيقية .. والذين اجتهدوا في الشعر الحديث على مذهب ت . س . إليوت، وقصيدته الشهيرة الأرض الخراب، لم يحصدوا غير الخيبة والاغتراب عن مجتمعاتهم .. والذين التقطوا الفتات المتساقط من فكاهة ارستوفان حتى فكاهة مارك توين، فاتهم تذوق الأطباق العامرة بالطعام على موائد الجاحظ والهمذاني .
وإذا بحثنا عن الأب في الدور الروائي، وهو أدب الجذور والفروع، وليس أدب الفروع وحدها، وفي أمة عربية حرصت على الأصل وحفظ الأنساب، في قوام وجودها وفي تعبيرها عن هذا الوجود .. لم نعثر على صورة الأب، اذا عثرنا عليها الا بشكل عارض لا يؤثر في صلب الشخصيات ومجرى الأحداث .
وباستثناء الشخصية التي قدمها أديبنا الكبير نجيب محفوظ في الثلاثية وهي شخصية سي السيد، التي نسج خيوطها من شخصية الأب كارامازوف في مجونه وطغيانه .