وصية أم
(رفاه المهندس) أديبة وكاتبة. غادر ابنها البكر عشها صباح السبت الفائت إلى بريطانيا للدراسات العليا، فكتبت له رسالة ممزوجة بدموعها، وطلبت منه أن يقرأها في الطائرة. قرأتُ الرسالة وأنا أردد في نفسي قول شاعر النيل: الأم مدرسة، إذا أعددتها، أعددت شعباً طيب الأعراق. فاستأذنتها لأنشر بعضاً منها، حسب المساحة المتاحة في هذا العمود.
تقول: إلى حبيبي أحمد، مع خالص الود وأصدق الدعوات، أضع بين يديك قلبي في هذه الكلمات.
حبيبي أحمد: علمتُ أنَّ الوقت لا يتَّسع لكلِّ شيء، فاخْتَرت أهم المهمات لوقتي، واستخلصت من ساعات نهاره وليلي كل عمل يعود عليَّ بربح، ولا يعود عليَّ بخسران أو ندم. فاخْتر لأوقاتك ما يجعلها فرحاً موصولاً، وخيراً دائماً.
العُمر مراحل، كلُّ مرحلة لها ما بعدها، فاحسب لكل مرحلة ما وراءها، ولا يَغْرُرْك حال الساعة التي أنت فيها، بل احسب حال الساعات التي تأتي بعدها. تعش السعادة مرتين: في ساعتك، وفيما يأتي بعدها.
ضَعْ لنفسك خارطة الأحلام، وكُن على قدر الرجولة، رجلاً يصنع من الحُلُم الحقيقة. ولا ينسى خارطته ولا يهمل خطَّته.
لا تكن عبداً إلا لله، ارفع هامتك فلا تُعفِّرها بغير الذل له، ولا تطرق إلا بابه. قم: صُفّ قدميك عند بابه، وأخْضِعْ جبهتك ساجداً، وقل: يا رب! فليس مَنْ يجيب ويعطي إلا هو. رتِّل كتابَ العزيز الرحيم، يُعزك مولاك أبدَ الدهر.
كن جواداً، سخياً بكلِّ خير. تخيّر لنفسك الطيب من الطعام، واللباس من غير سَرَف. وأبقِ على كل خير فيك فأنت أنت يا أحمد.
لا خَيْرَ فينا إن لم نكن هُداةً دعاةً لرب ودين ننشر نورنا في الخافقات ونعلن دينه في العالمين. تمسَّك بإسلامك تنل احترام من حولك، وإن لم تفعل فلا خير فيك.
يجربك أعداؤك: في صدق قولك، وفي أمانة عهدك، في نظافة يدك وجيبك، وفي ولائك لأمتك، فإن لمسوا فيك هوادة، هانت نفسك عليهم.
تخير إخوانك فهم جزء من هُويتك. قل لي: مَنْ مِن الناس التقيته فبهرك فيه تكامل شخصه؟ لابد إن أعجبك فيه وصف، ساءك منه أوصاف، وإن أُخذتَ منه بجانب صُددتَ عنه بجوانب، وإن بدا لك منه خلق خفيتْ عنك منه أخلاق… إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. يمكنك أن تجعله قدوة تقتدي بها، وأسوة تتأسى بها، ولا تظن أن اختلاف الزمان والمكان يغير صفات الخير والشر فإن الصدق والعدل والرحمة والإيثار صفات الخير في كل زمان رغم اختلاف أساليبها وتنوع تطبيقاتها.
ارفع رأسك يا أحمد، حتى ولو بهرتك مظاهر حضارتهم، ارفع رأسك يا حبيبي عالياً فما دالت الدولُ علينا إلا لما خفض أبناؤنا رؤوسهم، وأنزلوا راياتهم ونامت أمجادنا على كتف التاريخ.
فكرّ قبل أن تقدم على أي عمل، كما عوَّدتني من نفسك. فكّر برضوان ربك، بشفاعة حبيبك لك، بدعاء أبيك وتضرُّعه، بأمك وقلبها الذي كاد أن ينخلع.
نم كما أنت واستيقظ كما أنت، وانبعث كما أنت. صافياً نقياً، واثقاً تقياً. أبداً أبداً يا حبيبي.
التصنيف: