كلما وضعت تلك الطائرة عجلاتها فوق أرض المطار، أشعر بالروح تعود إلي..
عجلات الطائرة هي نفسها التي ترتفع فوق هذه الأرض في اليوم عشرات المرات..
إلا أنها في النهاية تعود لموطنها، وتعود للأرض التي تحمل اسمها وعلمها..
نهوى السفر والتحليق فوق الغيم وفوق الأبراج الشاهقة، حتى نحقق شيئا ما بداخلنا..
أشياء كثيرة هي التي تدفعنا دائما إلى حزم حقائبنا، وجرها معنا فوق أرض المطارات، دون تراجع أو ملل.
أحيانا نسافر فقط لنمتع أعيننا وأرواحنا بمناظر جديدة، وأجواء لطيفة ورقيقة، وننسى بعضا مما يؤرقنا في الديار.
لكننا كلما قررنا الرحيل وحزم أمتعتنا الخاصة، نترك مساحات كبيرة في حقائبنا، حتى تتمكن كل المعوقات التي نفر منها من مرافقتنا وملازمتنا طول الرحلة.
ماذا ينفعنا ذلك؟ ونحن لا نستطيع التخلي عن مسؤولياتنا والتزاماتنا الدنيوية، حتى ونحن نحط على أرض غير أرضنا، ونتنفس بهواء غير هوائنا..؟؟
إنها المشاعر الإنسانية التي لا يمكننا أن نغلق عليها في خزائننا الخاصة، أو في حسابات بعيدة المدى في مصارفنا، أو حتى بين جدران منازلنا وفي أركانها الكثيرة..
مسئولياتنا والتزاماتنا الكثيرة، ترافقنا في كل لحظة، وفي كل خطوة نخطوها خارج أعماقنا، وخارج كل الأمور الجديدة وغير المألوفة .
تحملنا الطائرات بتذكرة واحدة لكل فرد، ندفع فيها الكثير من الأموال لنحتل مقعدا واحدا، في الدرجة التي نحبها، قرب النافذة كالصغار تماما، وكأننا نحاول البعد قدر الإمكان، والاختباء في ركن بعيد عن عيون تلك المسؤوليات، وتلك المشاعر والأعباء الاجتماعية والعاطفية أيضا.
أو قرب الممرات، حتى ننشغل بالمضيفات والمضيفين الذين يظلون متنقلين بيننا وبين مقاعدنا، لطرد كل ما يحيرنا ويشغلنا ويعيق لحظات رحلتنا الغارقة في أعماق السحب والفضاء الواسع..
لكن كل ذلك لا ينفعنا، فمشاغلنا الداخلية ترحل معنا دون تذاكر مدفوعة الثمن، ودون مقاعد لها أرقام خاصة، ودون حاجة لخدمات المضيفين والمضيفات، فقط هي معنا، متعلقة بكل حبالنا العصبية، وكل الخلايا النفسية، وكل الموصلات الفكرية الصعبة..
نسافر لننسى، لنهرب مما نحاول أن ننساه، لكننا ننسى سبب سفرنا وهروبنا ورحيلنا، ونظل مشغولين بكل ما تركناه خلفنا في البيت والعمل، والديار.
نحمل هدايانا لأصدقائنا وأقاربنا، وأجزاء كثيرة من بقايانا الهاربة معنا دون استئذان، ودون حجز مسبق.
نحمل ضمائرنا الحية الحاضرة دائما في كل لحظات الفرار والانعزال، والوحدة، والتساؤلات التي لا تنتهي أبدا ولا نصل معها إلى أجوبة شافية كافية.
أحلم أحيانا بصندوق سحري، يمكنني أن أضع فيه كل آلامي وأحزاني وانشغالاتي ومسؤولياتي، وأغلق عليه بالمفتاح، وألقي به في قاع المحيط البعيد، حتى أشعر بخفتي، وخفة أحمالي، وأتمكن حينها من التحليق والسفر بعيدا بعيدا، دون أثقال، ودون أحمال مضنية، فهل يتحقق هذا الحلم يوما؟.

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *