معارك أوباما الداخلية.. دلالات هامة
[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]محمود عبده علي [/COLOR][/ALIGN]
عقب فوز أوباما مباشرة بانتخابات الرئاسة الأمريكية، علق الصحفي الأمريكي الشهير توماس فريدمان على هذا الفوز، قائلا عن نفسه إن \”آخر منصب يريد أن يتولاه هو أن يكون رئيساً للولايات المتحدة\”.
قال فريدمان هذه العبارة، وهو يدرك كاريزمية أوباما جيدا، ويرفع معه شعار \”التغيير\”، لكن أهل مكة أدرى بشعابها كما يقال؛ فالأزمات اليوم تلاحق أوباما من كل حدب وصوب، ولا يقتصر ذلك على الملفات الخارجية الشائكة مثل عملية السلام في الشرق الأوسط والوضع في أفغانستان والعراق والملف النووي الإيراني وملف العلاقات الأمريكية مع كل من روسيا والصين، بل إن أوباما \”النشط\” يخوض الآن أكثر من معركة داخلية منذ توليه منصب الرئاسة في مطلع العام الجاري 2009، ومن أبرز هذه المعارك اثنتين، أولاهما تدور حول خطته لإصلاح الرعاية الصحية، والثانية تتعلق بالانتهاكات التي كشف عنها مؤخرا، والتي ارتكبها مسؤولو الاستخبارات المركزية أثناء قيامهم باستجواب المعتقلين في عهد بوش الابن.
ومع الإدراك بأن العمل المؤسسي في أمريكا يختلف عن نظيره في العديد من البلدان، حتى المتقدمة منها، بحيث لا ينحو النظام إلى الغرق في ملفات الداخل على حساب الخارج، وكلاهما مرتبط وثيق الارتباط في دولة تدير معظم الشؤون العالمية؛ فإن الاستغلال الشخصي من قبل الخصوم ودرجة شعبية الرئيس ونفوذ اللوبيات بأنواعها المتباينة، كلها عوامل تترك ولا شك سلبيات على أداء الرئيس وإدارته وتنهكه داخليا سيما وأنه مشهود لأوباما بأنه شخصيا من يحاول إدارة ملفات الخارج بنفسه.
إن أوباما، الشاب المفعم بالحماس، يجد أجندته في الداخل كما في الخارج صعبة التحقق، وشعبيته في انخفاض مستمر، وحزبه الديمقراطي يعارضه بشدة، ويضطر ربما إلى إعادة اكتشاف ذاته؛ فالتغيير والإصلاح بعد إدارة مثل بوش مهمة شاقة إن لم تكن شبه مستحيلة.
المثال الأول لأزمات أوباما الداخلية، والتي احتلت خلال الشهرين الأخيرين الحيز الأكبر من اهتمام الأمريكيين، هو ملف الرعاية الصحية؛ فبسبب ارتفاع تكلفة خدمات التأمين للموظفين، توقف العديد من أصحاب العمل عن تقديم هذه الخدمات. ومثلاً كان 61% من المؤسسات التجارية الصغيرة توفر تأمينا صحيا لموظفيها في عام 1993، وهبطت هذه النسبة حالياً إلى 38% فقط.
ولم يمنع إنفاق الولايات المتحدة أموالا طائلة على الرعاية الصحية (بلغ مجموع الإنفاق على الخدمات الصحية نحو 2.4 تريليون دولار في عام 2007، أو ما يعادل 7.900 دولار للشخص الواحد)، أن تكون حالة الأمريكيين الصحية أسوأ من حالة نظرائهم في معظم البلدان الصناعية المتقدمة، وهي بلدان تنفق نصف ما ينفقه الأمريكيون على الرعاية الصحية للفرد الواحد، كما أن نسبة المسنين فيها أعلى من الولايات المتحدة.وتتمثل النقطة المحورية لخطة أوباما لإصلاح الرعاية الصحية في إنشاء برنامج للتأمين الصحي ترعاه الحكومة الأمريكية ويكون بوسع أي مواطن أمريكي الانضمام له. كما تتضمن الخطة أيضا وضع قيود على شركات التأمين لإنهاء ممارستها التعسفية ضد الأمريكيين.
وتوفر الخطة أيضا كل الخدمات الأساسية بما فيها الطب الوقائي، وتلك الخاصة بالأمومة، كما تنظم أقساط التأمين الصحي بحيث يسهل على المواطن الأمريكي تحملها، عن طريق منح إعانة فيدرالية للأفراد والأسر على رواتبهم، للدخول في خطة التأمين العامة الجديدة أو النظم التأمينية الخاصة. كما يمكن للمشتركين وفق هذه الخطة الانتقال من وظيفة إلى أخرى دون الاضطرار إلى تغيير نظام الرعاية الصحية الخاص بهم. ومن وجهة نظر الرئيس الأمريكي باراك أوباما، فإن هناك أربع مزايا رئيسية لخطة إصلاح الرعاية الصحية، تتمثل في: أولاً: توفير التأمين الصحي لمن ليس لديهم تأمين، ثانياً: وضع تكاليف الرعاية الصحية المتصاعدة تحت السيطرة، ثالثاً: ضمان أن تذهب الضرائب مباشرة لرعاية كبار السن، رابعاً: توفير الحماية الأساسية للمواطن الأمريكي ضد شركات التأمين، ومحاسبة هذه الشركات على ممارساتها السابقة.
تتمثل نقطة الخلاف حول برنامج أوباما للرعاية الصحية في خيار التأمين الحكومي الذي تتضمنه الخطة، والذي يثير حفيظة كثير من الجمهوريين وبعض الديمقراطيين، المحافظين منهم، علاوة على العديد من جماعات المصالح.ويمكن القول إن هناك ثلاثة أسباب رئيسية وراء المعارضة التي يواجهها أوباما حول خطته للرعاية الصحية:
السبب الأول: سبب إيديولوجي؛ فجانب كبير من الجدل الدائر حول هذه الخطة يدور حول الفلسفة التي تقوم عليها، بمعنى الدور الذي ستلعبه الحكومة الفيدرالية في تنفيذها. فغالبية الجمهوريين، واليمين الأمريكي تحديدا، يرفضون بشكل قاطع فكرة تدخل الدولة، ويعمدون إلى تقليل هذا التدخل إلى الحد الأدنى، ومن ثم ليس من العجيب أن يصور البعض خطة أوباما للرعاية الصحية بأنها ليست إلا \”برنامجا اشتراكيا للاستيلاء على القطاع الخاص\”، أو أن توجه اتهامات إلى أوباما بتحويل أمريكا إلى روسيا (وكأن روسيا ما زالت شيوعية).
ولا يقتصر هذا الخوف من التدخل الحكومي فقط على اليمين الأمريكي بل يمتد أيضا ليشمل قطاعات كبيرة من المواطنين الأمريكيين. فعدم ثقة الأمريكيين في الحكومة هو السبب الرئيسي وراء توجس الأمريكيين من خطة أوباما لإصلاح الرعاية الصحية. فقد أظهر استطلاع للرأي قامت به شبكة سي بي اس وصحيفة نيويورك تايمز أن 69 % من الأمريكيين يشعرون بالقلق من أن جودة خدمات الرعاية الصحية ستزداد سوءا إذا وفرت الحكومة الرعاية الصحية للجميع.
السبب الثاني: يتعلق بالخوف من أن تؤدي خطة أوباما إلى زيادة عجز الميزانية الفيدرالية بنحو 293 مليار دولار خلال السنوات العشر المقبلة (بلغ العجز في الموازنة التي طرحتها إدارة أوباما، في مايو ماضي، للعام 2009 حوالي 1.841 تريليون دولار، ويتوقع مكتب الإدارة والميزانية الأمريكي أن يبلغ عجز الميزانية حوالي 1.258 تريليون دولار)، فضلا عن إضرارها بالشركات المتوسطة والصغيرة التي يعول عليها الخبراء لامتصاص الأعداد المتزايدة من العاطلين من جراء الأزمة الاقتصادية.
ثالثا: معارضة شركات التأمين وأصحاب المصالح، فإنشاء برنامج للتأمين الصحي ترعاه الحكومة المركزية سيضر بمصالح هذه الشركات إلى حد كبير. كما أن الرئيس أوباما لم يخف عن خطته لإصلاح الرعاية الصحية تستهدف أساسا محاسبة هذه الشركات والحد من تجاوزاتها.
وبعيدا عن أسباب المعارضة، فإن هناك ثلاث رؤى مطروحة حول إصلاح الرعاية الصحية:الرؤية الأولى: يتبناها الديمقراطيين، الليبراليين منهم على وجه التحديد، وتدعو هذه الرؤية إلى ضرورة التدخل على نطاق واسع في قضية الرعاية الصحية، وذلك انطلاقا من اعتقادهم أن التشريعات الخاصة بالرعاية الصحية تحتاج إلى أفكار جديدة مثل استحداث خطة للتأمين الحكومي، تقوم الحكومة بموجبها بتوفير تغطية صحية للعاملين من الطبقة المتوسطة وأسرهم.
أما الرؤية الثانية: فيتبناها الجمهوريون، وهي رؤية أكثر محافظة بشأن التعامل مع الرعاية الصحية، حيث تقتصر فقط على الحد من الأعراض السيئة لنظام الرعاية الصحية في أميركا. كما يقترح أنصار هذه الرؤية تقديم المساعدة لأصحاب الأعمال الصغيرة والذين يعملون لحسابهم الخاص. وقد يذهب بعض المشرعين الجمهوريين بعيدا إلى حد المطالبة بمد مظلة البرامج الحالية لتغطي الفئات الأكثر فقرا. لكن أنصار هذه الرؤية يرفضون بشدة فكرة الخطة الحكومية للتأمين الصحي أو تقديم ضمانات بأن الجميع سيكون مشمولا بالتأمين الصحي.
ويتبني المعتدلون من كلا الطرفين رؤية ثالثة ، تقوم على تبني اقتراب كلي لقضية الرعاية الصحية، يضع البلاد على المسار الصحيح تمهيدا لإدخال جميع المواطنين في التأمين الصحي، ويعتقد أنصار هذه الرؤية أنه يجب على الحكومة مساعدة بعض الأمريكيين من الطبقة المتوسطة من خلال الإعانات المالية لتغطية نفقاتهم الخاصة على التأمين، لكنهم لا يؤيدون وجود خطة تأمين تديرها الحكومة الفيدرالية.
وليس من الواضح حتى الآن أيا من الرؤى السابقة سيكون له الغلبة، لكن الأكيد أن قضية الرعاية الصحية ستكون على رأس أولويات الكونجرس الذي سيستأنف جلساته الأربعاء القادم، بعد عودة أعضائه من العطلة الصيفية، بخطبة يلقيها الرئيس أوباما، محورها الرئيس خطته لإصلاح الرعاية الصحية.
أما الأزمة الثانية، والمرشحة للتصعيد في الآونة القادمة، تتعلق بالانتهاكات التي ارتكبها عملاء وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية \”سي أي إيه\” أثناء قيامهم باستجواب المشتبه في ضلوعهم بجرائم إرهابية، وهي أزمة بدأت إرهاصاتها خلال الشهر الماضي مع الكشف عن تقرير كان قد أعده المحقق العام للوكالة في عام 2004، تناول كثيرا من أساليب التحقيق، التي اعتمد عليها عملاء الوكالة، والتي تمثل انتهاكا لحقوق الإنسان والحريات التي أقرها الدستور الأمريكي.
وتراوحت هذه الأساليب بين الإيهام بالغرق، والتهديد بقتل أطفال المعتقلين أو التهديد باغتصاب أحد أفراد العائلة أمام المعتقل، بالإضافة إلى أساليب تعذيب جسدية من قبيل سد الشرايين في جسد المعتقلين حتى يغمى عليهم، والترويع باستخدام الأسلحة وآلات الحفر الكهربائية، وغير ذلك من أساليب غير إنسانية.
الأدهى من ذلك، كما يرصد التقرير، أن هذه الأساليب تم استخدمها اعتمادًا على دليل إرشادي تم إصداره بواسطة وزارة العدل الأمريكية، والتي حاولت إيجاد ثغرات قانونية تبرر بها التوصية باستخدام مثل هذه الأساليب في التعذيب، ومنع إمكانية محاسبة من يقوم بهذه الأعمال في المستقبل.
وقد دفعت الانتهاكات التي وردت بالتقرير وزير العدل الأمريكي \”إريك هولدر\” إلى تعيين محقق قضائي جديد هو \”جون دورهام\”، الذي يتولى حاليا التحقيق في فضيحة قيام وكالة الاستخبارات المركزية بتدمير شرائط تسجل وقائع التحقيق مع بعض المشبه بهم في جرائم تتعلق بالإرهاب، وهي جرائم وردت بالتقرير المذكور.
وأمام هذه المشكلة تتجاذب أوباما ثلاثة تيارات رئيسية: الأول يطالب بالمضي قدما في التحقيق في الأمر ومحاسبة المسئولين عن هذه الانتهاكات، لتعود صورة أمريكا نقية كما كانت، وعلى رأس هذا التيار الجناح الأكثر ليبرالية في الحزب الديمقراطي وعدد من المنظمات المعنية بحقوق الإنسان في مقدمتها الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية.
والتيار الثاني يرى أن هذه الأساليب كانت ضرورية لحماية الأمن القومي الأمريكي، ويتهم هذا التيار إدارة أوباما بالإضرار بالأمن القومي. ويأتي على رأس هذا التيار نائب الرئيس الأمريكي السابق ديك تشيني، الذي وقف بكل ثقله وراء تقنيات الاستجواب التي استخدمها عملاء الـ \”سي أي إيه\”، ودافع عنها، ومازال يؤكد إلى الآن جدوى الاعتماد عليها، مبررا ما كان يجري من تعذيب للمعتقلين بأن الاستجوابات كانت خاضعة لإشراف \”مهنيين على درجة عالية من الكفاءة ويدركون جيداً واجباتهم القانونية\”.
أما التيار الثالث يرى ضرورة الحفاظ على وحدة الأمة الأمريكية، ومن ثم يرى خطورة فتح تحقيق حول ممارسات الماضي، من شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه أمام المزيد من الجدل، كما سينبش ملفات توصل حتماً إلى مسئولين كبار في الإدارة السابقة قد يطالهم العقاب، ما قد يحدث شرخا في المشهد السياسي الداخلي.
ويميل أوباما إلى حد ما للتيار الثالث، فقد أعلن صراحة في إبريل الماضي، أنه لن يقدم المسئولين والضباط العاملين بوكالة الاستخبارات المركزية أثناء ولاية الرئيس بوش الذين استخدموا وسائل التعذيب للمحاكمة؛ مبررا ذلك بأن هؤلاء كان يفعلون ذلك \”بسلامة نية\”؛ حيث كان لديهم توجيه رسمي بأن هذه الأساليب \”لا تعد تعذيبا\”. بل وصف أوباما العاملين في ميدان المخابرات بأنهم \”خدموا بشجاعة على خط الجبهة في عالم محفوف بالأخطار.. وينبغي أن نحمي هوياتهم بنفس اليقظة التي حموا بها أمننا، وينبغي أن نزودهم بالثقة التي تجعلهم يؤدون واجباتهم\”.
ويدل على هذا الموقف أيضا على أن أوباما ما يزال مترددا في فتح تحقيق شامل بشأن الانتهاكات الكثيرة في عهد الإدارة السابقة لحقوق الإنسان والحريات المدنية والحقوق القضائية، التي من المفترض أن يتمتع بها المعتقلون. كما كان أوباما حذراً بشأن الكشف عن كل تفاصيل التقرير الذي أعده المحقق العام في وكالة الاستخبارات المركزية، وكذلك بشأن الترحيب بالتحقيق الذي أمر وزير العدل بفتحه في هذه الوقائع التي كشف عنها التقرير.
وعلى أية حال، فإن القرار الذي سيتخذه أوباما سيعتمد إلى حد كبير على مفاضلته بين الحفاظ على وحدة الأمريكيين والحيلولة دون انقسام النخبة الأمريكية، أو تغليب القيم الأمريكية المتمثلة في احترام حقوق الإنسان، ومن ثم المضي قدماً في ملف التحقيق في انتهاكات الاستخبارات المركزية.
وبوجه عام لا تخلو الأزمات الداخلية التي يواجهها أوباما من دلالات هامة. فمن ناحية يعطي أسلوب تعامل النظام السياسي الأمريكي مع سياسة عامة مثل سياسة الرعاية الصحية درساً لكثير من دول العالم النامي التي تُصنع فيها السياسات العامة خلف الأبواب الموصدة، أو تهبط القرارات على رؤوس المواطنين دون أدنى علم مسبق، بل قد يصحو المواطنون من نومهم ليفاجأوا بأن سياسة ما قد طبقت، مع العلم بأن هذه السياسات تمس مصالح وأقدار ملايين المواطنين.
ومن ناحية ثانية تعيد الأزمات التي يواجهها الرئيس أوباما داخلياً التأكيد على الحقيقية البديهية الخاصة بنمط صناعة القرار داخل الولايات المتحدة، والمتمثل في أنه مهما كانت الكاريزما التي يتمتع بها الرئيس الأمريكي؛ فإن دوره في صناعة القرار، الداخلي والخارجي، يظل محدودا ومقيدا سواءً من قبل الكونجرس أو جماعات الضغط والمصالح.
وأخيرا، من المهم التأكيد على دلالة تلك الأزمة على المستوى الخارجي في الوقت الراهن، وخاصة فيما يتعلق بصناعة القرار الأمريكي في ملفات السلام وإيران وغيرها؛ فالرئيس الذي لا يستطيع أن يمرر خطة لإصلاح الرعاية الصحية، أو لا يجرؤ على فتح تحقيق في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، لا يتوقع منه أن يحدث انقلاباً في سياسة الولايات المتحدة ليس لأنه لا يرغب في ذلك بل لأنه لا يستطيع!!.
التصنيف: