قَصَّاص الحمير …الرجل ذو القدر الكبير
قبل نيف وستين عاماً، تعود الذاكرة إلى رجالٍ كرام لهم وقفات وإبداعات في مدينةٍ تتميز بأصالة أهلها وأدبهم وخلقهم واحترام بعضهم البعض. جميعهم عاملون ومن كسب يدهم يعيشون فرحون وبتوكلهم على خالقهم واثقون….
منهم التاجر، والعامل، وصاحب المهنة، والحرفي، والموظف، ورجل المعادي، وممتهن الصيد والبحر…
مثلهم مثل أي شعب يعيشون في مدينة ساحلية إلا أنهم تميزوا بموقع مدينتهم الجغرافي الذي حباهم به الله كبوابة للحرمين الشريفين وميناء رئيس … يسودهم الحب والوفاء والتواضع والصدق والطيبة والنقاء،
نبدأ بسرد بعض مهنهم وعملهم وحالهم …،
العم الفاضل المزين، رجل طويل القامة نحيل البنية جميل المنظر أنيق الملبس على بساطته، أبيض البشرة نقي الوجه تزينه لحية بيضاء خفيفة تزيده وقاراً على وقاره وعمامة بيضاء تتوسطها الكوفية المنشأة قليل الكلام كثير الصيام محافظ على صلاته جماعة في زاوية المغربي القريبة من محله الذي يباشر فيه عمله والذي يطلق عليه الناس (عزلة) والقابع في أحد أزقة جدة الجميلة بالواجهة الجنوبية من حارة المظلوم، ويمتد قباله الزقاق الطويل المؤدي إلى سوق العلوي ويتفرع عن اليمين من الناحية الغربية على الزقاق العريض نسبيا المؤدي إلى بيوت آل المنصوري وبا قيس وآل أبو الحمائل، ومن الناحية الشرقية بيت عبدالجبار ماوية ( الأشبط ) ثم القهوة المشهورة بقهوة البيومي لصاحبها الرجل الوقور الجليل الشيخ عبدالحميد بيومي والمؤدي الى بيوت آل درويش الأفاضل ثم إلى باب مكة الشهير
وكان العم المزين دؤوب العمل يشاركه العمل شقيقه الأبكم والذي كان ممتلئ الجسم نسبياً مربوع القامه نسبياً، حسن الوجه يمتلئ نشاطاً وحيوية لكنه ليس مثل أخيه الأكبر سناً المزين الأكثر وَقَاراً و رزانةَ وخبرة…
مهنتهم قَص شعر الحمير والخيل والبغال والغنم. وكان لهما أخ استقل لوحده في عزلته التي تبعد بضع عشرات الأمتار عن عزلة أخويه .
وكان العم المزين وشقيقه لهما خبرة كبيرة في معالجة المريض من هذه الحيوانات، فكل واحدٍ منهما حكيمٌ بيطري، وسبحان الله كانت يد العم المزين مباركة وفيها الشفاء بمشيئة الله، وكان مشهوراً بذلك وكنت أراه بعض الأحيان يفتح فم البقرة أو الغنم المريضة وله مقص حاد جداً مائل بزاوية حوالي ٤٥ درجة، يسحب لسان البهيمة -كما كان يطلق عليها- ويقوم بقص الأهداب البارزة حتي يسيل الدم منها ثم يأتي بكمية من الملح مع مادة أخرى ويفرك اللسان بهما وسبحان الله بعد يوم أو إثنين يتم الشفاء وتعود سليمة معافاة
وكانت مهنته وعمله وشقيقه قص شعر الحمير والخيل والغنم بطريقة جميلة وبنقش جميل مميز يلجأ إليهم من له علاقة بالغنم والحمير والخيل والتي كانت من وسائل التنقل والمواصلات والكسب بل والتباهي فترى قرب شهر رمضان وقبيل موعد الأعياد الإقبال الكبير لأصحابها لعزلة المزين بغرض تزيينها بالحناء وقص شعرها بطريقة جميلة ومميزة حيث كان العمان الفاضلان يتفننان في القص والنقش بخفة ومهارة وإتقان كأنَّ كل منهما فنان يرسم لوحة إبداعية ويتركز الإبداع في الرسم بالمقص على الجهة العلوية لكل من الظهر والأقدام الأمامية والخلفية ولو أن الخلفية يهتما بها أكثر ويقوما بعد ذلك بتزيينها بالحناء بطريقة مرتبة ومنظمة تختلف بحسب رغبة مالكيها .
حياة بسيطة وصعبة ولكنها مهن شريفة يعملون بها بكل رضا وحب وإتقان…،
رجال عظماء وتراث جميل أصيل تميز به أصحاب المهن في جدة بمختلف مسمياتها بمن فيهم العمان الفاضلان وهما من العوائل الجداوية العريقة الأصيلة وكانا يتمتعان بسمعة طيبة وراقية وأخلاق فاضلة حميدة ويحظيان باحترام الجميع من أهل الحارة التي يعملان فيها بالقرب من بيتنا المطل على زاوية المغربي من الناحية الشرقية والمواجه لدار الجارين العمين الكريمين محمد مكي حكيم وشقيقه عبدالرزاق حكيم من الناحية الغربية وكنا نطلق عليها البحرية، وكذلك يطل من نفس الناحية البحرية على دار السادة الأفاضل السيد حسن والسيدان عبدالرحمن ومحمد المنصوري كما يطل من الناحية الشمالية ( الشامية ) لبيت العم عبدالجبار ماوية (الأشبط) ومن الناحية الجنوبية بيت العم محمد صوفي رحمهم الله جميعاً فقد كانوا نِعم الجيران الطيبين الكرماء الأفاضل وكانوا رحمهم الله يكنوا لوالدي رحمه الله الكثير من المحبة والمودة والتقدير والاحترام المتبادل مثلهم مثل سكان حارات جدة الآخرين الذين يشار الى رقي ودماثة أخلاقهم وأصالة طباعهم
هذه جدة مسرح إنساني عامر بالفنون وطرائق عيش متعددة ….
حياة شريفة تعمر الكون،
وهؤلاء أهلها الكرماء العظماء البسطاء العلماء الأولياء والأتقياء الذين تتميز بهم مدينتهم التي يعشقونها شعارهم الحب في الله ولله والعمل فيما يرضي الله وطبعهم البذل والعطاء بلا مَنٍّ ولا رياء.
والى لقاء
التصنيف: