الصامتون خلف ستار الحياة

Avatar

[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]محمد أحمد عسيري[/COLOR][/ALIGN]

لم يكن نهارا اعتياديا ذلك النهار الذي خرجت فيه حاملا حذائي لسوق وسط البلد بحثا عن ماسح ماهر يداوي اعتلاله من تشوهات الزمن الذي طالت أناته حتى الجماد . كان يوما يحمل ملامح النهايات والشجن المعتق ، هدوء في النفس برغم صخب السوق . شعرت وأنا أخترق الطرقات الضيقة أني الشخص الوحيد المتواجد بعيدا عن وقع خطواتي ورائحة القِدم المرسومة على الأرصفة والمّحال .
تساءلت عن سبب هذا الخشوع الذي يحيط بي فلم أجد سببا غير لحظات الشتاء التي كانت تكتب كلمات وداعها على وجه الشمس وكأن العناق الحار تحول لرداء من السكينة . في زاوية بعيدة عن كل الحراك الإنساني والركض خلف كسب الرزق توقفت عند محل صغير عرفت أنه لماسح أحذية من خلال أدواته المصفوفة بعناية فائقة وكأن المنظر لأوركسترا منضبطة تنتظر إشارة البدء .
تقدمت وأنا أتفحص ملامحه الثرية بالحزن ، وشعره الممزوج ببياض السنوات ، والأحداث .. وبنظرات خجولة تجولت داخل المكان الضيق البعيد عن الزبائن وفي صدري بركان يثور أسئلة أكاد لا أفهمها لفلسفتها .. و أحيان تبزغ الإجابة سريعا كلسعة كاوي مجيد . ناولته الحذاء فأشار لي بالجلوس بالقرب منه على (دكه) مجاورة . أخذ يتفحص الحذاء من تحت نضارته السميكة وكأنه يستمع لشكواه.. وفي المقابل كنتُ أحمد الله الذي هداني إليه لأتعلم أن هذه الحياة ليست كلها صخب وكلام ، فهناك من يعاركها بصمت . تناول عدته وباشر إصلاح ما أفسده الدهر بحركات متناسقة ومَّساحات محسوبة بدقة متناهية حتى أن الأدوات بعد استخدامها تعود لمكانها المخصص دون فوضى . بعد لحظات من بدء المسح يبدو أنه انهمك ورحل كسربٍ مهاجر عبر الحدود لمكان لا يعرفه سواه ووجوه اشتاق لممارسة بعض الفرح معها .. عرفت ذلك من خلال ألحانه الحزينة التي كان يترنم بها وهو يهز رأسه ببطء . مر بي صوته كغيمة شتاء أثقلها حملها .. مر على مسمعي كالذكريات التي كلما هجرتنا لا تجد غير أرواحنا مكانا للمبيت .
نسيت اهتمامي بحذائي الذي طالما رافقني وذهبت أركض خلف فكره الشارد لعلي ألتقط بعض الصور التي كبر من فيها وشاخ ولكنهم ما زالوا صغارا يركضون بين الأشجار مع الطيور في أغنيات ذلك العجوز المفعم بالوقار . قصير نهار الشتاء .. يمر بنا كسفينة أنهكها الموج وأبلى أشرعتها . يأتي ليقرأ علينا بعض حكايات الدفء ويغادر خلف ستار الصمت والعتمة . قصير كقصر الوفاء وبعض الصدق وحكايات الأمل التي انتهت ونحن نحلم بالنوم والمطر الأبيض .
غادرت ماسح الأحذية بعد أن ناولته أجرته البسيطة وعلى وجهه شبه ابتسامة تلوح في أفق ينتظر التقاء السماء بالأرض . عدت من نفس المكان الضيق ولكن الوجوه كلها تحولت لوجه الماسح الحزين الذي رافقني لحنه الشجي لآخر الطريق حيث الحياة والمساء كانا يعلنان نهاية الشتاء .
[email protected]

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *