«يهودية» إسرائيل.. بين الصهيونية الدينية والأمنية
إبراهيم غالي
ظهر مصطلح \”يهودية\” إسرائيل بوتيرة متسارعة خلال السنوات القليلة الماضية على ألسنة المسؤولين الإسرائيليين، ووصل الأمر إلى حد اعتبار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اعتراف الفلسطينيين بـ\”يهودية\” إسرائيل شرطا لموافقة حكومته على قيام دولة فلسطينية ضمن ما تبقى من الضفة وغزة، بعد إسقاطه للقدس وحق العودة.
وانتقل المصطلح بشكل أسرع إلى ما يشبه الإجماع الدولي عليه، لا سيما من الطرف الأمريكي، سواء أكان الجمهوري السابق جورج بوش الابن أو الديمقراطي الحالي الرئيس باراك أوباما، ومن ثم أضحى الاعتراف بـ \”يهودية\” إسرائيل مطلبا علنيا تجاهر به إسرائيل المفاوض الفلسطيني والأطراف العربية المختلفة.
ومما لا شك فيه أن لإسرائيل العديد من الأهداف المبطنة والمعلنة وراء هذا الطرح الجديد الذي بات لا يختلف عليه أقطاب السياسة الإسرائيلية من مختلف المشارب والتيارات، وهي الأهداف التي تقتضي البحث في الجذور الدينية والتاريخية والفكرية والأيديولوجية من جانب، وبحث العوامل الجيو استراتيجية والديموغرافية وغيرها للوقوف على أبعاد المخططات الإسرائيلية وراء اللهث عن اعتراف فلسطيني بيهودية الدولة العبرية.
ورغم أن الحديث عن \”يهودية\” إسرائيل لم يظهر على السطح إلا في السنوات القليلة الماضية، فإن مفهوم \”الدولة اليهودية\” لم يغب يوما عن ذهن مخططي الحركة الصهيونية منذ القرن التاسع عشر. فوفق هذا المفهوم تأسست دولة إسرائيل بالقوة في عام 1948 لتكون مكانا يجمع يهود العالم (أو هكذا افترض أن تكون)، ولولا التشبث العربي بالأرض الفلسطينية لتحول هذا المفهوم إلى واقع حقيقي منذ عقود.
ومنذ تأسيسها وحتى نهاية القرن العشرين، تعمدت إسرائيل تقنين العديد من الإجراءات والقوانين التي تسعى إلى \”تهويد\” المكان والإنسان العربي وإجبار فلسطيني 48 إما على المكوث في دولة يكونون بها مواطنين من الدرجة الثالثة، وإما على الرحيل ومغادرة أراضيهم.
وغير بعيد عن ذلك لم تكن حرب إسرائيل التوسعية في عام 1967، في أحد مضامينها، سوى تعبير عن جوهر الفكرة الصهيونية القائمة على التوسع من أجل تحقيق الأمن المطلق إستراتيجيا، وتعبير آخر عن فكرة أرض الميعاد كما ترويها الأدبيات الصهيونية دينيا.
ولئن كان يمكن التفرقة في المجال النظري والفكري والأيديولوجي بين يهود يتشبثون بتلك الفكرة وآخرين يرونها محل نقد لأسباب مختلفة، وخاصة ممن ينتمون لتيار \”ما بعد الصهيونية\”، فالثابت أن إسرائيل وقادتها باتوا يطرحون منذ العام 2003 فكرة \”يهودية\” الدولة كشرط يجب على العرب والفلسطينيين الاعتراف به مسبقا قبل التوصل لحل ما للصراع العربي – الإسرائيلي؛ مستغلين في ذلك عدة أمور أبرزها: دخول العالم بقيادة القطب الأمريكي في حرب ضد ما يسمى \”الإرهاب\” بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وتراجع مكانة القضية الفلسطينية بعض الشيء على الصعيد العربي الرسمي، وممارسة إجراءات على الأرض تُحوِل حلم \”يهودية\” الدولة العبرية القابع في الأذهان إلى ما يشبه الحقيقة عبر تكثيف الاستيطان في الأراضي المحتلة وتهويد القدس الشرقية وتشديد الخناق ضد فلسطيني 48.. إلخ.
وفي هذا الإطار تهدف هذه الورقة إلى بحث جذور فكرة \”يهودية\” إسرائيل، والتحولات التي صاحبت هذه الفكرة لا سيما مع مطلع الألفية الجديدة، ثم دراسة ما تقوم به حكومة نتنياهو الحالية من تطبيق فعلي لـ \”يهودية\” الدولة، والتي بدأت فعلياً على يد شارون ومن بعده أولمرت، وبحث الموقف الأمريكي من هذا الطرح الإسرائيلي، وأخيرا الوقوف على أهم التداعيات الخطيرة التي تكرسها فكرة \”يهودية\” إسرائيل على أرض الواقع.
وبناءً على ذلك تنقسم هذه الورقة إلى أربعة محاور أساسية، وهي:
أولاً: إسرائيل.. \”يهودية\” وغير ديمقراطية منذ البداية.
ثانياً: \”يهودية\” إسرائيل.. نيو صهيونية أمنية.
ثالثاً: نتنياهو وأوباما.. توافق على \”يهودية\” إسرائيل.
رابعاً: تكريس \”يهودية\” إسرائيل.. الأهداف والتداعيات.
أولاً: إسرائيل.. \”يهودية\” وغير ديمقراطية منذ البداية
بغض الطرف عن التأريخ لظهور الصهيونية، سواء كفكرة أو حركة دينية، وهي اللفظ الذي يرتد إلى كلمة \”جبل صهيون\” بفلسطين، وتعني لدى اليهود \”أرض الميعاد\” أو \”الأرض المقدسة\”؛ فإن الصهيونية كاتجاه سياسي برزت بين يهود أوروبا في القرن التاسع العاشر، وصاغه الكاتب اليهودي الألماني \”ناتان برنباوم\” (1)، لتكون المقدمة الطبيعية لتبلور مصطلح \”يهودية الدولة الإسرائيلية\” الموعودة فيما بعد.
وعلى الرغم من أن فكرة \”العودة\” التي آمن بها اليهود على مر العصور لم تكن جديدة، إلا أن \”تيودور هرتزل\”، اليهودي النمساوي وصاحب كتاب (الدولة اليهودية 1896) ومؤسس المنظمة الصهيونية العالمية، كان أول من دعا في التاريخ الحديث جدياً إلى إقامة دولة يهودية، وذلك لحل \”المشكلة اليهودية\”، التي تتمثل في تشتت اليهود وتعرضهم للاضطهاد أينما وجدوا برغم أنهم \”أمة واحدة\” أو \”شعب واحد\”، والحل الوحيد لهذه المشكلة هو \”عودة هذا الشعب\” إلى أرض الميعاد.. أرضه المقدسة.. فلسطين، بغية إقامة دولة خاصة به؛ وبهذا ظهر مصطلح \”يهودية الدولة\” أو \”دولة لليهود\” في أدبيات المؤتمر الصهيوني الأول الذي أنهى أعماله في نهاية أغسطس 1897 في مدينة بازل السويسرية، ثم أقر المؤتمر الصهيوني السابع (أغسطس 1905) أن هذه الدولة مكانها فلسطين، وقرر وقف كافة النشاطات الاستعمارية، سواء كان ذلك غاية أو وسيلة، خارج فلسطين والأراضي المحاذية لها\”.(2)
ومنذ هذا التاريخ كانت فكرة \”يهودية الدولة\” دائماً إحدى ركائز الفكر الصهيوني حيث تبلور اتفاق داخل الحركة الصهيونية حول إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وإن كانت درجة هذه اليهودية وبعض مضامينها بقيت مثار جدل بين تيارات معينة داخل الحركة الصهيونية لم ينقطع حتى الآن؛ إذ كان هذا الهدف بذاته موضع نقد وتشكيك من جانب عدد من أبرز المثقفين والمفكرين اليهود مثل هرمان كوهن، وفرانز روز، نزويغ، ومارتن بوبر، وحاييم سولوفيتشيك، والذين لم يتقبل أي منهم فكرة إنشاء دولة يهودية لاعتقادهم أن الشعب اليهودي في جوهره فكرة روحية وأن إنشاء دولة يهودية سيعني بالضرورة أن تعتمد الديانة اليهودية على السياسة والمؤامرات ورأس المال، ما يعني في رأيهم نهاية اليهودية كفلسفة ومثل أعلى وحقيقة (3).
ومنذ البداية تجلت حقيقة هامة، وهي أن الدولة المنشودة ستكون \”يهودية ديمقراطية\”، \”يهودية\” بمعنى غلبة العنصر اليهودي، و\”ديمقراطية\” لمواطنيها من اليهود رغم وجود عرق آخر بهذه الدولة، أي أنها غير ديمقراطية لغير اليهود؛ فقد استند مفهوم الدولة \”اليهودية\” في كتاب هرتزل على رفض المبدأ الديمقراطي القاضي بأن الدول تستمد حقها في الحكم من قناعة السكان الذين يعيشون فيها، وكان لابد له من رفض هذا المبدأ، لأن اليهود لم يكونوا أغلبية في فلسطين.
وبدلا من ذلك، أكد هرتزل أن شرعية الدولة اليهودية مستمدة من الحاجة إلى حماية \”الوطن الآمن\” أيا كانت نواياه نحـو إنشاء حكومة في فلسطين (حيث اليهود أقلية بين العرب)، وتكون لها قوة السيادة على كل السكان (يهود وعرب)، وأن تتصرف في الظاهر فقط باسم اليهود المنتشرين حول العالم (4).
على هذه الخلفية، ابتدع قادة ومنظرو الحركة الصهيونية الأساطير المؤسسة للدولة، وهي أن اليهود \”بنو صهيون\” أمة متميزة ومفضلة على الأغيار وأنهم شعب الله المختار، وبالتالي الربط بين هذا الشعب وبين أرض الميعاد التي لليهود حقوق خالدة فيها، ثم \”عودة المسيح المنتظر\” لبني صهيون؛ وهو الأمر الذي سيضع حداً لشتات اليهود وإقامة وطنهم القومي في فلسطين إلى الأبد.
ويذكر البروفسور الإسرائيلي \”يوسف جوراني\”، أستاذ العلوم اليهودية بجامعة تل أبيب، أنه وفقا لهذه الخلفية الدينية، تبنًت الحركة الصهيونية أربعة مبادئ أساسية (5)، هي: مبدأ تجميع اليهود في أرض فلسطين، وتحويل اليهود إلى الأغلبية السكانية فيها، وضرورة العمل العبري وتبني مبدأ الثقافة العبرية.
وقد أكد هرتزل في مذكراته على هذه المبادئ، بقوله: \”إن غاية الصهيونية هي خلق وطن للشعب اليهودي بفلسطين.. وإن المؤتمر الصهيوني يرى في الوسائل التالية الطريق إلى تحقيق الغاية (6):
1 ـ العمل على استعمار فلسطين بواسطة العمال الزراعيين والصناعيين اليهود.
2 ـ تنظيم اليهودية العالمية وربطها بواسطة منظمات محلية ودولية تتلاءم مع القوانين المتبعة في كل بلد.
3 ـ تقوية وتغذية الشعور والوعي القومي اليهودي.
4 ـ اتخاذ الخطوات التمهيدية للحصول على الموافقة الحكومية الضرورية لتحقيق غاية الصهيونية.
وبناءً على هذه المبادئ شرعت الحركة الصهيونية العالمية، بالتعاون مع القوى الاستعمارية الأوروبية، مع بداية القرن العشرين، في استقدام أكبر عدد ممكن من يهود العالم وتهجير السكان العرب، والاستيلاء على أكبر مساحات ممكنة من الأرض العربية في فلسطين، وبناء الوحدات والتنظيمات العسكرية الإرهابية لتحقيق الأمن لليهود القادمين وتشريد العرب أهل البلد الأصليين.
ولا يمنع الخلاف الكبير الذي نشب بين قادة الحركة الصهيونية حول طبيعة وشكل الدولة الجديدة، وهو خلاف بين العلمانيين والمتدينين اليهود، أن جوهر الدولة \”اليهودية\” كان هو أساس قيام الدولة؛ فقد سعت إسرائيل منذ اليوم الأول لميلادها لاستخدام تعبير \”يهودية الدولة الإسرائيلية\”، وتروي أدبيات مجلس الأمن في ذلك الوقت أن المندوب الأمريكي هو الذي حذف تلك الكلمة بتعليمات من الرئيس الأمريكي هاري ترومان في منتصف مايو 1948.
وجاء إعلان تأسيس دولة إسرائيل (ما يعرف باسم: إعلان الاستقلال)، الموقع في 14 مايو 1948، كوثيقة من صفحتين ليؤكد هذه الحقيقة، إذ عرف إسرائيل بوضوح كدولة يهودية، وشددت الوثيقة على أن السلطة والسيادة في إسرائيل هي للشعب اليهودي بالقول: \”إن هذا الحق هو الحق الطبيعي للشعب اليهودي لكي يكون سيد مصيره، شأنه في ذلك شأن كل الأمم في سيادة دولهم\”. وتواترت في الإعلان عبارات تؤكد هذه النقطة كمقولات: \”الشعب اليهودي في بلاده الخاصة به\”، \”الشعب اليهودي يبني وطنه القومي\”، \”الدولة اليهودية\”، \”حق الشعب اليهودي في تأسيس دولته\”، \”شعب يهودي سيد\” (7).
وقد حددت الوثيقة أحد أهداف الدولة في نصها على ما يلي: \”دولة إسرائيل ستكون مفتوحة أمام الهجرة اليهودية ولجمع الشتات وستعمل على تطوير البلاد لصالح كافة سكانها\”.
وبهذا الإعلان وضع مؤسسو إسرائيل تمييز واضح لا غموض فيه بين اليهود الذين هم السلطة السيادية في إسـرائيل، وبين السكان العرب الذين لا سلطة سيادية لهم، بحيث يتم فرض وتوكيد وضع السكان العرب في إسرائيل كمواطنين من الدرجة الثانية [بالإيجاب]، من خلال القوانين التي تقدم لك الامتيازات لكونك يهودياً، وليس [بالسلب] أو بالإنكار الرسمي لحق العرب في الجنسية أو في التصويت أو في تولي المناصب (8). تقول وثيقة إعلان الاستقلال: إن للعرب حق \”المساواة الكاملة في الحقوق الاجتماعية والسياسية\”، وجنسية كاملة ومتساوية وتمثيل عادل في كل مؤسسات إسرائيل الدائمة والمؤقتة\”.
إن ما جاء في تلك الوثيقة لناحية حقوق غير اليهود في إسرائيل يكاد يتماشى مع وعد بلفور (2 نوفمبر 1917) الذي جاء فيه: \”تستحسن حكومة جلالة ملك بريطانيا إقامة بيت وطني للشعب اليهودي في فلسطين، وستقوم بأقصى مجهودها للتوصل إلى هذا الهدف, بشرط واضح هو ألا تؤذي الحقوق الوطنية والدينية للطوائف غير اليهودية في فلسطين وألا تؤذي حقوق ومكانة اليهود في أي بلد آخر\” (9).
غير أن ديباجة قانون العودة الذي أقر في عام 1950 تسـتهل القول: \”يحق لكل يهودي أن يهاجر إلى إسرائيل وأن يستقر بها\”؛ فالهدف الرئيسي من إقامة إسرائيل هو جعلها دولة لليهود المقيمين فيها أو في أي مكان آخر في العالم، ولكل يهودي في العالم الحق في المجيء إلى إسرائيل ونيل الجنسية الإسرائيلية.
كما ألغى القانون الأول الذي أصدره مجلس الدولة جميع الأنظمة التي كانت تحد من دخول اليهود واستيطانهم في فلسطين، وبهذا أعطيت المواطنة الشرعية لكل يهودي داخل فلسطين (وخارجها كذلك)، وفتحت أبواب فلسطين لدخول اليهود، وألغيت جميع القيود القانونية على تملكهم الأرض الفلسطينية. وقد فرضت هذه القوانين على جميع المناطق الفلسطينية التي سقطت تحت الاحتلال، بما فيها المناطق الخارجية عن حدود الدولة اليهودية المبينة في خريطة التقسيم وفق قرار التقسيم (29 نوفمبر 1947).
وعلى النقيض فإن الفلسطينيين، أصحاب الأرض الأصليين، قد شلت حركتهم وقدرتهم على فعل نفس الأمر، فهم لا يستطيعون العودة إلى منازلهم في إسرائيل والتي عاشوا فيها لأجيال عديدة، بل حتى العرب الذين لم يغادروا إسرائيل قط، لكنهم مكثوا أياما قليلة عند أقاربهم في قرية مجاورة بانتظار انتهاء الحرب في 1948، هؤلاء الآن مصنفون في إسرائيل كـ\”غائبين حاضرين\”، وهي فئة سيبقون فيها إلى الأبد، ونتيجة لها تبقى بيوتهم وأملاكهم في حيازة \”حارس أملاك الغائبين\” الذي يضع هذه الأملاك تحت تصرف اليهود.
وفي سياق كهذا فإن نشأة إسرائيل من خلال الحركة الصهيونية قد جعل من المبادئ الصهيونية ومن \”يهودية الدولة\”، مقولات قانونية أساسية تستند إلى قوانين الدولة ذاتها؛ فقد سن الكنيست الإسرائيلي مجموعة من القوانين تخدم حصرا سيطرة الأغلبية اليهودية وهيمنتها في إسرائيل، وذلك من خلال \”قوننة\” التمييز ضد عرب 48، خدمةً للعنصرين المادي والبشري اليهودي، وهما العنصران اللذان دأبت الحركة الصهيونية على توفيرهما بشكل متواصل من خلال تشجيع الهجرة اليهودية ومصادرة أراضي الفلسطينيين وتهويدها، حيث سنت إسرائيل في الأعوام الأولى لقيام الدولة القوانين اللازمة لتثبيت كيانها كدولة \”يهودية\” وخدمة أهداف الحركة الصهيونية والهجرة اليهودية، ونزع ملكية العرب الذي غادروا البلاد وأصبحوا لاجئين، وتقليص ملكية العرب الذين صمدوا في أرضهم تحت الاحتلال.
ومن أهم هذه القوانين (10): قانون العودة لسنة 1950، وقانون أملاك الغائبين لسنة 1950، وقانون أملاك الدولة لسنة 1951، وقانون الجنسية لسنة 1952، وقانون إدارة أراضي إسرائيل في عام 1960. ناهيك عن عشرات القوانين العنصرية التالية التي تميز ضد العرب وتجبرهم إما على الإقامة كمواطنين من الدرجة الثانية، وإما الرحيل ومغادرة أراضيهم.
إن هذه السلسلة غير المتناهية من القوانين العنصرية ما هي إلا التزام إسرائيل رسمي بالصهيونية، وبالتالي بـ \”يهودية الدولة\”، وقد رسخ هذا مع الوقت لدرجة أنه أضحى غير قابل لطرحه لمجرد النقاش داخل المؤسسات الإسرائيلية، وذلك بموجب قانون أقره الكنيست في عام 1985، يحظر طرح مشاريع قوانين \”تنفي وجود إسرائيل كدولة للشعب اليهودي\” (11).
وعلى الرغم من أن الصهيونية حركة اضطهدت اليهود وغير اليهود سابقا، لكن يبقى أن الصهيونية، كانت ولا تزال، مرتكزا للقومية اليهودية من جانب، وملتصقة تماما بدولة إسرائيل من جانب آخر.
وحتى مع مضي الوقت واستقرار دولة إسرائيل على أرض الغير لم تُلغى الفكرة الصهيونية المركزية، وهي أن أرض الميعاد تمتد من نهر النيل بمصر إلى النهر الكبير/الفرات (أو بطريقة أخرى من مصر إلى العراق الحالي)؛ ففي عام 1956 أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بن جوروين أن السبب الحقيقي لحرب السويس هو \”إعادة مملكة داود وسليمان إلى حدودها التوراتية\”، وعند هذه النقطة من خطابه، وقف أعضاء الكنيست كافة، وأنشدوا النشيد الوطني الإسرائيلي\” (12).
وفي أعقاب حرب 1967، واحتلال إسرائيل لسيناء والجولان والضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، ورد في رسالة من بن جوريون إلى الرئيس الفرنسي السابق شارل ديجول (6 /12 /1967) قوله: \”لقد آمنا طوال آلاف السنين بنبوءات أنبيائنا، وبيننا أشخاص يؤمنون بمجيء المسيح الذي سيجمع يهود العالم أحياءً وأمواتاً في الأرض المقدسة\” (13).
لقد كانت أفكار بن جوريون، مؤسس دولة إسرائيل، تقوم على أن أهم ركن من أركان الدين اليهودي هو الارتباط بالأرض \”أرض الميعاد\”، وأن تعلق اليهودي \”بأرض الميعاد\” ناتج عن الصبغة القومية والإقليمية في الدين اليهودي، وأن اليهودي الحقيقي هو الذي \”يرجع إلى هذه الأرض، أما من يرفض \”العودة\” والاستيطان في فلسطين، فيعد خارجاً على الدين، تاركا لله، لأن الإله \”يهوه\” ظهر مرتبطاً بهذه الأرض\”.
وبرأي بن جوريون، فإن \”الصهيوني هو اليهودي الذي يحس ويعترف بأنه يعيش في منفى، إذا كان من مواطني أي بلد غير إسرائيل، ولذلك يقرر العودة إلى جبل صهيون\”.
وبهذا المعنى، فإن الصهيونية هي الجانب القومي في اليهودية، واليهودية هي الجانب الديني في الصهيونية، وإسرائيل بالتالي تحقيق سياسي للاثنين معا\”؛ الأمر الذي يعني أن الصهيونية هي الوجه السياسي- الفكري والأيديولوجي لليهودية، كما أن اليهودية هي المرتكز الديني للصهيونية. أما \”إسرائيل\” فهي التجسيد العملي والسياسي والكياني للظاهرتين معاً (14).
وفي هذا الإطار يقول الكاتب اليهودي هيرمان ووك في كتابه \”إن دولة (إسرائيل)، التي هي أحدث تحقيق لأقدم حلم ديني في الأرض، وضع مُخَطّطها مؤسّس لا ديني، وأوجدها رجال هم بالأغلب لا يراعون أحكام العقيدة. ومع ذلك فإن الصهيونية التي ازدهرت حالياً في (إسرائيل) تقع بالتأكيد ضمن مجال النظر البعيد للديانة اليهودية\”.
وبالنظر إلى هذا الارتباط، المتلاحم غير المنفصل، بين إسرائيل كـ \”دولة\” والصهيونية كـ \”حركة\”، فإن اليهود داخل إسرائيل وخارجها قد اعتبروا أن قرار الأمم الجمعية العامة بالأمم المتحدة الصادر في 10 نوفمبر 1975، والذي ذكر أن الصهيونية \”شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري\”، ودعا إلى التخلي عن الصهيونية كحل للمشكلة الإسرائيلية، بمثابة إعلان حرب من جانب الأمم المتحدة على الشعب اليهودي واليهودية.
وفي ذلك العام عقد المؤتمر الصهيوني الثامن والعشرون في القدس المحتلة، وفيه أعلن رئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيجين، أنه \”لا يمكن الفصل بين القومية وبين الدين في اليهودية\”. وعقد \”مؤتمر أورشليم لوحدة الشعب اليهودي\” يوم 3 ديسمبر 1975 داخل الكنيست الإسرائيلي، وشارك فيه 170 من زعماء اليهود في العالم، وألقى فيه رئيس \”دولة إسرائيل\” أفرايم كاتسير، كلمة قال فيها: \”إن هذا المؤتمر يشكل رمزا لوحدة إسرائيل واليهود والصهيونية\” (16).
التصنيف: