[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]د. زاهر عبد الرحمن عثمان[/COLOR][/ALIGN]

مر حوالي أسبوعين منذ بداية العام الدراسي ولم يظهر مدرس اللغة الإنجليزية، وهي المادة التي كانت في تلك الأيام، مثار الرعب للكثير من الطلاب. وبقيت الحصَّة فارغة إلا من عبثٍ يستغرق زمنها إذ يبدو أنه لم يكن هناك أساتذة يمكنهم ملء الفراغ. ولم يحصل ذلك إلا مرة واحدة عندما حضر الأستاذ أحمد أبو ذراع، مراقب المدرسة، ليقدم لبعض الطلاب المشاغبين حصتهم من لسعات خيزرانته التي كانت أخف ضراوة من المراقب الأساس.
ذات يوم ووسط ضوضاء العبث، دلف إلى الفصل شخص لم يلتفت إليه أحد. وبالرغم من أنه حاول رفع صوته إلا أن التنبُّه لذلك استغرق وقتا. صمت الجميع والتفتوا إلى ذلك الواقف بمنتهى الهدوء. ظنوه في البدء طالبا من الأكبر سنا الذين كانوا يظهرون في بعض الفصول.. أيضا في تلك الأيام. لكنه فاجأهم بأنه المدرس المنتظر للغة الإنجليزية. علت علامات الاستغراب على كل الوجوه فلم يكن وقتها معتادا أن يكون مدرس اللغة الإنجليزية سعوديا. لكن الاستغراب الأكبر كان من تلك الشخصية الأنيقة الناصعة البياض الذي ظهر فيما بعد إنه بياضٌ جميلٌ في كل شيء. وابتدأ الدرس ولكن بعض أصواتٍ لعيِّنات من المشاغبين كانت تتواجد في كل فصل، أقلقت المدرس، وحاول جهده أن يتعامل معها بهدوئه فلم ينجح، ثم حاول أن يبدي حزما لم يستطعه مع ما جُبل عليه من هدوء.
مرت الأيام ووجد الطلاب في مدرسهم ضالتهم. فقد استطاع أن يُحبِّب إليهم تلك المادة وأن يعينهم ما استطاع على تقبُّلها وفهمها. وأصبحت الفصول التي يدرسها الأستاذ مصطفى جموعي الإنجليزية محسودة من بقية الفصول. ومع ذلك فلم تخل بعض الحصص من شوائب بعض العابثين كما لم تخل من براءة البعض الآخر ومنهم ذلك الذي استطاع الغش، ولم يكن ذلك صعبا، من ورقة الطالب الذي أمامه. وحين جاء الأستاذ مصطفى بالنتائج فوجئ الطالب بأنه أعطاه صفرا.. ورفع صوته مجادلا. وحين واجهه بتهمة الغش بالغ في الإنكار إلا أنه سرعان ما تراجع خائبا إذ ظهر أنه نقل عن ورقة زميله كل شيء حتى اسمه.
ظل مصطفى جموعي أحد علامات متوسطة عمر بن الخطاب، بالمدينة المنورة. وظهر فيما بعد أنه لم يتخصص في اللغة الإنجليزية وإنما في الرياضيات التي حصل على شهادتها من جامعة أمريكية معتبرة. ولكن حاجة المدرسة أحالته إلى تدريس الإنجليزية، وأظنه بقي كذلك زمنا لم يعد فيه إلى الرياضيات. وبقي مصطفى جموعي مثار الخطأ المستمر من بعض الطلاب الذين ظلوا يظنونه أحدهم متعدين عليه أحيانا. ولكنه كان جميل التقبُّل واثق الابتسامة. وحين غادرنا المتوسطة إلى الثانوية ثم إلى خارج المدينة بقي مصطفى جموعي فترة في الذاكرة.. يخرج منها كلما بدا طيف الأجمل مما مضى من الأيام.
لم ألتق به ربما منذ ذلك الزمن.. وذات يوم قريب اتصل بي من أعدُّه الصلة الأجمل بالمدينة. سألني، إذ لم يكن يعرف عن معرفتي: مصطفى جموعي درَّسك؟ قلت نعم. فأكمل: \”كان عندكم في الرياض\” وصمت. ورغم ارتيابي للصمت المفاجئ شعرت بتحرك الحنين والأسف ووعدت نفسي أن أحملهما لزيارة مصطفى جموعي. إلا أن بقية الرسالة كانت أنه لم يبق كثيرا لا في الرياض ولا في الدنيا.. حيث انتقل بعد عودته إلى المدينة المنورة التي أحبَّ ولم يرض عنها بديلا، إلى رحاب لا تضيق بالرحمات.
تسلل إلى أذنيَّ صوت أحد الأساتذة المصريين الذي كان يناديه مداعبا دوما بـ \”يا مصطفى يا جموعي\” وكأنه ينادي أحد الطلاب.. وكانت الحسرة.. يا مصطفى يا جموعي.

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *