ولع المغلوب بتقليد الغالب
[COLOR=blue]د. ريم ثابت[/COLOR]
في بحث إشكالية الهيمنة والتنمية في المجتمعات النامية، أكاد أجزم أن هناك سببا نفسيا خطيرا يُعد أحد أهم الأسباب الخفية التي يشار إليها بأصابع الاتهام في فشل عملية التنمية، هذا السبب ألخصه في (التطابق Self- identification)، وما أعنيه بالتطابق هنا – وطبقاً لما ذهب إليه علم نفس الشخصية – هو أن يتنازل الفرد عن نفسه الفردية، ويتحول إلى آلة تتطابق مع ملايين الآلات الأخرى المحيطة به من البشر.
ويلجأ المواطن في دول العالم الثالث إلى التطابق كحيلة دفاعية يتغلب بها على الهيمنة الواقعة عليه، فتراه يعتنق الشخصية التي يتم تقديمها إليه من قبل السلطة المهيمنة، ثم يكف عن أن يكون ذاته أو نفسه، الأمر الذي يترتب عليه أن تختفي الهوة والتي يفترض أن تفصل بين (الأنا) والعالم المحيط به، مما يساعده على الشعور بالرضا والارتياح النفسي نتيجة التخلص من الخوف الشعوري بالعجز والوحدة، وفي رأيي يتشابه هذا الأسلوب مع ما يعرف بـ (التمويه Camouflage) عند بعض الحيوانات، كأن تلون جسمها طلباً للحماية من أعدائها، فتندمج تماماً مع محيطها حتى يصعب على أعدائها تمييزها.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن أسلوب الهيمنة المتبع من قبل الممسكين بزمام السلطة – في دول العالم الثالث – له آثاره الخطيرة على التكوين النفسي والعقلي للمواطن، ولاسيما بالنسبة للمواطن البسيط، ولعل من أشد آثاره خطورة هو الميل الواضح نحو التخلي عن استقلال النفس الفردية، ودمج الذات في ذات أو ذوات أخرى، خارج نطاق النفس، بغرض الوصول إلى القوة التي تحتاج إليها النفس الفردية. هذا ويلاحظ أنه في أغلب دول العالم الثالث تعمل السلطة على دعم (التطابق) لدى المواطنين، إذ يندفع المسئولون نحو التنمية على غير هداية، ودون إدراك للمنطلقات الأساسية للتنمية، وكذلك دون وعي بطبيعة المخاطبين في عملية التنمية، فتجدهم ينطلقون نحو مشروعات تنموية ذات بريق طنان، تقوم على دراسات ومخططات جزئية، والمطلوب هنا أن تنفذ تلك الدراسات والمخططات إلى دينامية البنية المتخلفة من جهة، وتنفذ أيضاً إلى التكوين النفسي والعقلي للمواطن المتخلف الذي يستهدف تطويره من جهة ثانية.
وبالطبع يخفق المواطن في ظل هذه المنظومة التنموية، والسبب الأساسي في هذا الإخفاق أن المواطن في هذه المجتمعات لم يؤخذ بعين الاعتبار في مسيرة خطط التنمية، ولم يتم اعتباره عنصراً محورياً في أي خطة تنموية، في الوقت الذي تشير فيه الدراسات التي أجريت في هذا الصدد أن التنمية أياً كان ميدانها فهي تمس – على نحو حيوي – تغيير الإنسان ونظرته إلى الأمور، مما يلزم وضع الأمور في نطاقها البشري السليم، بحيث يؤخذ بعين الاعتبار خصائص وديناميات الشريحة السكانية التي يراد تطوير نمط حياتها.
هذا ولقد درجنا – كمجتمعات نامية – على أن نستقبل أغلب أفكارنا من العالم الغربي المتقدم، يساورنا اعتقاد خاطيء أن هناك فقط يتم إنتاج الفكر الذي يضيف جديداً إلى بنية الفكر المجتمعي، وما على مجتمعاتنا الاستهلاكية إلا أن تمارس وظيفتها المعتادة في الوقوف عند حد استهلاك الفكر المنتج الذي يتم استيراده من العالم الغربي المتقدم، ولقد ساعد الفكر المهيمن – سواء من داخل المجتمع (السلطة) أو من خارجه – على دعم هذا الاعتقاد الخاطيء وتعزيزه، لكن إحقاقاً لقول الحق، إن دول العالم الثالث ليست خاوية تماماً من الإنتاج الفكري الجيد، ذلك الإنتاج الذي يمكن أن يضيف للفكر الإنساني، إنما هنالك عقول يتمتع بها موهوبون ومبدعون، تلك العقول في حاجة ماسة إلى الرعاية والاهتمام قبل أن تلقى مصيرها المحتوم، وتأخذ دورها التقليدي في مسلسل التبعية، وتصبح متطابقة في آلياتها تبعاً للفكر المهيمن، فمشكلة مجتمعاتنا هي الولع بتقليد الفكر القامع، حتى إن (ابن خلدون) عبر عن ذلك بقوله: (إن المغلوب مولع دائماً بتقليد الغالب).
التصنيف: