وعليك منا جزيل السلام
[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]الحسن بن طلال[/COLOR][/ALIGN]
هكذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أوصانا القرآن الكريم بأن نرد التحية بأحسن منها. فيطيب لنا أن نرد تحية الرئيس باراك أوباما التي أزجاها للمسلمين في ديارهم من على منبر قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة بأحسن منها فنقول: \”وعليك السلام ورحمة الله وبركاته\”. ونشكر له الإشارة إلى الدور الحضاري الذي نهض به العرب والمسلمون، ومساهمتهم في تقدم العلوم والفلسفة، وذكر مآثر الإمام الغزالي والفارابي والخوارزمي وغيرهم.
وحسناً ما اختاره الرئيس موقعاً ومنبراً للحديث إلى المسلمين ومخاطبتهم. وحسناً ما أنجزه القائمون على برنامج الرئيس من رعاية مشتركة للحدث تقاسمتها جامعة القاهرة مع جامعة الأزهر، أقدم جامعات العالم. وهي التي كان ليعقوب بن كلّس العربي اليهودي البغدادي المولد، الفلسطيني النشأة، والمصري الهوى، وافر الفضل في تأسيسها بمفهوم يشابه مفهوم جامعات الغرب اليوم، حين آلت إليه الوزارة الفاطمية بعد عودته إلى مصر مع جحافل جوهر بن عبدالله الرومي الملقب بالصًقًلّي، فاتحً مصر، باسم المعز لدين الله العبيدي. وهو، أي جعفر الرومي الصقلي، مؤسس القاهرة ذاتها. ويشي اسمه (الرومي) ولقبه (الصقلي) بأصله المسيحي. هكذا كانت الإلفة بين أتباع الديانات التوحيدية الثلاث في التراث العربي الإسلامي. ولم يغفل الرئيس اللمّاح عنها حين عرج في خطابه على ذكر هذه الإلفة والتآلف بإشارته إلى نموذج العيش المشترك بين أتباعها تحت الحكم العربي في الأندلس. فحيَّى الله ضيفَ مصر المتحدث إلينا منها باسم الولايات المتحدة – معشر العرب والمسلمين – بلهجة تصالحية محبّبة من مهجة بدت نواياها طيبة، واتسعت لفهم رسالة الإله الواحد الداعية إلى السلام والتعارف بين الشعوب عبر الديانات التوحيدية الثلاث.
وما كان للرئيس أن يجهد في تأكيد ما تصبو إليه أفئدة أتباع هذه الديانات، بل أفئدة البشر جميعاً، من أمْنْ ورَغَد عيشْ مشترك يساهم منه الجميع في إعلاء بناء حضارة الإنسان. فالمستضعفون والودعاء من عباده، لا الجبابرة الطغاة والقساة القلوب، هم الوارثون: بدليل قوله تعالى في محكم التنزيل، ونريد أن نَمُنَّ على الذين استُضْعًفوا في الأرض ونجعلَهم أئمةً ونجعلَهم الوارثين. (القصص5): وبدليل آية الأنجيل من موعظة الجبل \”طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض\” (متّى الأصحاح 5).
وأحسن الرئيس حين أعاد للأذهان أحقاب التصالح والتصادم بين العالمين الإسلامي والغربي عبر المدوَّن من تاريخهما. ونضيف أن المطامع كانت للصًدام الدوافع، حتى إن الفرنجة اقتتلوا مع الروم في حملتهم الرابعة، واحتلت جحافل اللاتين القسطنطينية أوائل القرن الثالث عشر، وأقصوا بطريركها وحكموها لفترة زادت على نصف القرن، وهي التي جردوا حملاتهم للدفاع عنها. بل إن الفرنجة أقدموا على هدر دماء المسيحيين الشرقيين وقتلهم في البلاد المقدسة ضمن ما اقترفوا من مجازر بحق أهل البلاد. وتركزت المطامع في إنشاء الممالك والمصانع والاستئثار بثروات الشرق. إلا أن حملات الفرنجة لبست لبوس الجهاد المقدس مدعية استخلاص القدس من أيدي الفاطميين، وكذلك الدفاع عن القسطنطينية ضد حملات المسلمين الأتراك السلاجقة. ولا يسعنا إلا التساؤل عن دوافع الحرب الحديثة التي جردها الغرب لاحتلال العراق بعد أن باح بها مفكرون أميركيون مرموقون يوم قالوا: إن النفط والموارد، لا الديمقراطية وحقوق الإنسان، كانت وراء الاكتساح الدموي للعراق الذي وصفه الرئيس في خطابه \”بحرب الاختيار\”، لا حرب الاضطرار. وهي حرب سيذكرها الصغار قبل الكبار لما شهدوا فيها من دمار وذاقوا بسببها ذل الانكسار. فكأن دوافع الصدام اليوم أشبه بدوافعه الأمس، ويبقى كما كان : صدامَ اختيار لا صدامَ اضطرار. وهو لذلك قابل للعلاج بالوصفة التي ذكرها الرئيس في خطابه: المصالح المشتركة، والاحترام المتبادل، والاعتراف بسيادة الشعوب في أراضيها وقبول خياراتها.
ويهوًّنُ الوجدَ بلسمّ أطلقه الرئيس ليداوي به الجراح حين أعلن من منبره أن لا نيّة للولايات المتحدة الاحتفاظ بقواعد عسكرية في أرض العرب والمسلمين، وأن تصدير الديمقراطية بحُلّتها الأميركية قد عفا عليه الزمن، وأنه يحترم أسلوب الشعوب في ممارستها للديمقراطية وفق ما تتبنّاه من تراث وتقليد، والتزامه بدعم التوجهات الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان أينما كان، وذكره وتذكيره أن إلقاء اللوم على الغير أهون على النفس من تًبيان عيوبها، وأن الإشارة إلى الاختلاف مع الغير أسهل من الجهد اللازم للحوار والتواصل معه، وأن إشعال الحروب أسهل من إنهائها، وتأكيده أن حرمان النساء فرص التعلم والثقافة هو تعبير عن التمييز ضدهن وأنه سيعمل جاهداً لإزالة العقبات على طريق المسلمين في الولايات المتحدة لممارسة شعائرهم وولوج طرق التقدم وبلوغ الأرب. وذكر الرئيس لسامعيه ومشاهديه عامداً أن وصول الأميركيين السود إلى حقوقهم لم يكن بطريق العنف، بل بأساليب النضال والإحتجاج السلميين حتى تبوّأ أحدهم اليوم منصب رئيس الجمهورية.
وما من شك أن تناول الرئيس للقضية الفلسطينية وإشارته إلى معاناة الفلسطينيين وتوقهم إلى وطن قومي بالتوازي مع ذكره لمحرقة اليهود في أوروبا وتأكيده إيمان الولايات المتحدة بحل الدولتين، لأنه مصلحة إسرائيلية ومصلحة أميركية ومصلحة فلسطينية، هو تحول واضح في اتجاه السياسة الأميركية حيال القضية وأهلها وحيال الشرق الأوسط برمته. وتذكيره حركة حماس بما يراه من واجب عليها يدعونا إلى احتمال إخراجه حماس من خانة الإرهاب الأميركية وقبولها شريكاً في صنع السلام، وهو ما سيجعل ذلك عملية تشاركيّة لا إقصائية: الأمر الذي يعزز فرص نجاحها. ولا ريب أن التحول واضح في سياسته الشرق أوسطية حين أعطى الحوار مع إيران فرصة لتأكيد حقها في الاستعمال السلمي للطاقة النووية، والنأي عن سعيها لامتلاك السلاح النووي. وهو الرئيس الذي ينادي بالوصول إلى عالم متحرر من رعب أسلحة الدمار الشامل.
ولنا في خطاب الرئيس قول: أوله تهنئته الأكيدة على نجاحه في كسب آذان المستمعين والمشاهدين، وكسب معظم أفئدتهم. فالقلوب المتشككة رهن بما سيتبع أقوال الرئيس من أفعال. ولعل الدلائل الأولية تعبر عن جدية الرئيس في مواجهة المعضلات التي تقف حائلاً دون تصالح تاريخي بين الغرب والمسلمين يبدأ أساساً من تنفيذ عادل لحل الدولتين عبر تفاوض جدي هادف تشاركي لا إقصائي، برعاية أميركية ومشاركة منها حيثما يلزم، ومساعدة أوروبية وكندية ويابانية.
ونحن نتفق مع الرئيس في أن المبادرة العربية هي بداية تُوازي بداية أُخرى يجب على حكومة إسرائيل إعلانها والالتزام بتحقيقها: وهي تجميد فوري لبناء المستعمرات والانسحاب من جميع الأراضي التي احتلتها عنوة عام 1967، بما في ذلك القدس والضفة الغربية والجولان ومزارع شبعا، والكف عن إطلاق ما يحلو لها من أسماء على الجغرافيا العربية. هذه البدايات المتوازية تشق طريق التصالح والتعايش، بدءاً بالدولة الفلسطينية المستقلة المتصلة الأرجاء. ويتبع البدايات هذه إطلاق سراح المعتقلين والمساجين الفلسطينيين والعرب في السجون الإسرائيلية، وإطلاق سراح الرهينة الإسرائيلي لدى حماس، والاتفاق على حدود الدولة الفلسطينية، وعلى مصير جدار الفصل، وضمان تطبيق الاتفاق بقرار من مجلس الأمن وتعهد أميركي، مقابل اعتراف عربي بإسرائيل وتطبيع العَلاقات معها. فالأهمّ في بناء الثّقة بين الطّرفيْن ليس المزيدَ من التّنازلات الفلسطينيّة والعربيّة (أو ما يُسمّى التّطبيع): وإنّما تنفيذ ما تراكم عبْرَ السّنين من قراراتْ أُمميّة، ضمن إطار القانونً الدوليّ والشرعيّة الدوليّة.
ونتفق مع الرئيس في أن طريق العنف محفوف بالمكاره والدماء، ويعاني منه المدنيون بالدرجة الأولى. إلا أن احتلالاً يجثم على صدور الناس عنوة لعقود من دون مراعاة للمواثيق الدولية بخصوص الاحتلال ومن دون احترام لكرامة الإنسان وحقوقه وموارده الطبيعية لا يمكن إلا أن يؤدي إلى ردة فعل مماثلة في النوعية. ويجدر بنا أن نتذكر بدايات العنف التي لجأت إليها التنظيمات العسكرية الصهيونية، حتى من قبل إعلان قيام دولة إسرائيل. وهي ما تشهد عليها دير ياسين وفندق الملك داوود والفقيد الكونت برنادوت، وسيط الأمم المتحدة، وقبية ونحالين والسموع والقرى الفلسطينية التي تمت تسويتها بالأرض، ومخيمات اللاجئين التي أبيحت لجرائم اقترفتها العسكرية الأسرائيلية أينما وصلت ذراعها، وآلاف الضحايا الفلسطينيين من شهداء ومساجين ومعتقلين. ولا يعقل أن تقارن هذه الفظائع بما حاوله الفلسطينيون من مقاومة للدفاع عن أرضهم التي تعرضت لغزو استيطاني لم يسبق له مثيل.
ونشدُّ على يد الرئيس إذ يتنطح لضمان حرية الممارسات الدينية، حتى في الولايات المتحدة، وذكره لفوائد التعددية التي نعرفها في بلادنا، مهد الحضارة والديانات. ونؤيده في ذكره فريضة الزكاة، إحدى أركان الإسلام الخمسة. فأداء المسلمين لها كفيل بوضع آليات لمحاربة البطالة والفقر حيثما وجد صندوق كهذا، ويعمل على محاربة الجهل وانتشار التعليم وصون كرامة الإنسان وأمنه الإنساني. وكنا قد أسهبنا في مناسبات عدّة في دعوتنا لإنشاء صندوق الزكاة وتعداد فوائده. وما صون الكرامة الإنسانية إلا مدعاة لتمكين الصامتين المصمّتين من المشاركة في تقرير شؤون دنياهم وتوجيهها في حًمىً تُرسى فيه مفاهيم الديمقراطية الوطنية، ويُصان فيه الخَلْقَ والخليقة، وتنتشر في ربوعه المسرة والعيش الكريم. وسيكون في مقدمة المستفيدين جموعُ المهمّشين بيننا من نسوة وشباب وفقراء ومًعْوَزين، وسينتقلون من خانة الحاجة والعوَز إلى طليعة المدافعين عن حياض هذا الحمى. وفي خطاب الرئيس ونبرته كُوَّةّ يدخل منها نسيم الكرامة والحرية: وفيه مشروع بناء جسرْ للانتقال بنا من مستنقع الشرق إلى الشرق الجديد، يتعزز فيه مفهوم المواطنة ويتلاشى فيه التمييز بين أبناء الوطن الواحد وينعم فيه الوطن بثراء التعددية. وهي التي أغنت الولايات المتحدة وتُغنيها وتزيد من منعتها وتحميها.
ونشارك الرئيس الاعتقاد أن عَلاقة الغرب بالشرق أعقد من أن يلم بها خطاب واحد أو شخص واحد. ونضيف أن في أسلوب الرئيس واهتمامه برأبً الصدعً أملاً في علاج الخلاف بالحوار، وإدارته بما يتسق مع ضرورات حسن الجوار علَّ في العقلانية والوجدانية التي يستقيهما الطرفان من حكمة الخالق ما هو كفيل بتصحيح المسار. ولعل في نتائج الانتخابات النيابية في لبنان استجابةً نوعيّة من لدن شعوب جرحى أبيّة لنداء الرئيس للبدء باتخاذ خطوات عملية لعلاقات شرقية غربية تصوغها المصالح المشتركة والاحترام المتبادل.
بوركت جهود الرئيس، وبوركت الأقوال التي تعززها الأفعال. وله منا جزيل السلام، ووعد أن نجنح إليه بالقدر الذي يجنح إليه عدونا. فهذا بعض من سجايانا. ونرد على تحيته التي وجهها بالعربية إلينا من القاهرة: \”وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته\”. ونضيف: \”والسلام الجزيل منا إلى المسلمين من شعبكم الذين نقلتم تحياتهم إلينا، وإلى عموم أفراد شعبكم على تعدد أجناسهم وأصولهم ودياناتهم وأطياف ثقافاتهم.\”
رئيس منتدى الفكر العربيّ وراعيه
عن الدستور الأردنية
التصنيف: