هل بدأ العدّ التنازلي للمثالية؟
[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]حسام تيسير الخاروف[/COLOR][/ALIGN]
كثيرون تنازلوا عن مثاليَّاتهم، وبعض هؤلاء جاء تنازلهم عن المثاليَّات بدرجة ساقطة جداً، وغارقة في الطِّين والأوحال إلى الأعناق. ولا شكَّ أنَّ سقوط المثاليين يدعونا إلى رسم علامة تعجُّب كبيرة لا نجد لها جواباً مبرراً! وسبب ذلك التعجُّب، ليس لأن المثاليَّة أمر لا يمكن الاحتفاظ به في هذا الزَّمن \”الرديء\”، وليس لأنَّ هؤلاء \”السَّاقطين\” هم أول مَن هوى، ولا آخر من عجز عن الصُّمود في وجه المغريات المتوَّفرة. وإنَّما يأتي التعجُّب ويزداد حجمه، لأنَّ بعض هؤلاء المثاليين عزَّ عليهم البقاء طويلاً في ذلك العالم الطَّاهر، بعد أن كانوا يحيطون أنفسهم \”بهالة\” عظيمة من النَّقاء، ويرسمون لأنفسهم إطاراً أخَّاذاً، يؤكِّد الاحتفاظ بالمبادئ والقيم والأخلاقيات، إلى درجة أنَّ كلَّ من عرفهم، أو ذاع صيتهم عنده، كان يستبعد مليون مرة أن يتنازل هؤلاء، أو يتزعزع ثباتهم، أو ينقطع تمسُّكم بتلك المثاليَّات النَّفيسة في زماننا، ولو بمثقال ذرَّة منها، عمَّا عُرفوا به من \”نقاء\” السَّرائر والأقوال وكذا الأعمال، أو ما ادَّعوه من طُهْر كانت تشوبه القذارة المتحوصلة، التي ما إن ضعفتْ النَّفس ولبَّت مطالب الجسد وشهواته، حتَّى تفَّشت وانتشرت سائر وديان الرُّوح، وهلك فيها ما امتُلك من الدُّرر الأخلاقيَّة، فنهب الصَّفاء، واضمحلَّ النَّقاء، فباتت نتنة، تفوح منها كراهة العفن، الذي ينفِّر أي عابر منها عمداً أو بقصد. ولكن الواقع جاء عكس ذلك تماماً، وبشكل يجعلك تعيد حساباتك بألم، في الكثير من المواقف التي تمرُّ بك، والصُّور التي تراها أمامك كلَّ يوم، لأنَّ هؤلاء الذين يدَّعون الإلتزام بالمبادئ والقيم النَّاصعة كانوا أوَّل الزَّاهدين فيها، وأوَّل المتنكِّرين لها، وأول المناديين بـ \”وأدها\” وبترها من الحياة.
والبعض من هؤلاء « المحتسَبين » إلى عالم المثاليَّة، تصل به درجة الوقاحة إلى أن يعلن بكلِّ صراحة، وفي أيّ مناسبة، أنَّه كان ساذجاً، عبيطاً ومخبولاً، عندما تمسَّك بهذه المثاليَّة! ويُعلّل قوله هذا، بعذر أقبح من ذنب، فيقول: العالم اليوم لم يعُد عالم المثاليين، وليس للإنسانيين فيه بقاء. ويواصل تبجُّحه قائلاً: إنَّه من أنصار مبدأ.. إن لم تكن ذئباً أكلتك الذِّئاب، ولا يعي أنَّه أسهل فريسة في عالم الغاب، لأنَّه تخلَّى عن حصانة أخلاقه ومبادئ تعاليم دينه الإسلاميّ.والبعض ممَّن لا تزال عنده بقيَّة من \”دم\”، يتظاهر أمامك بأنَّه مايزال \”إنساناً\”، فيه من الصَّفاء أكثر من غيره، بالرُّغم من علمك أنَّه بداخله ساقط من أعلاه إلى أسفله، ينتظر الفرصة غير المعلن عنها، ويظنُّ بأنها لا تنكشف، كي يبلغ أبشع سقوط قد لا يتوقعه يوماً!
وتزداد المرارة في حلقك، وأنت ترى يوماً بعد يوم، أن عالم المثاليَّة يفقد كل يوم أحد أنصاره! في الوقت الذي لا تجد أي عضو جديد ينضم إلى هذا العالم، الذي ربمَّا يصبح لا وجود له إلاّ عند « المساكين » فقط! ومع هذا الواقع \”العلقميّ\” يزداد تساؤلك: هل صحيح أنَّ عالم المثاليَّة اليوم أصبح وهم وضرب من خيال؟ وما إن تقترب إليه كي تلامسه يتلاشى أمامك، كلوحة رسمت على الرِّمال بدقَّة وفرط إتقان، وما إن حاولت الاحتفاظ بها على حائط ناظريك، حتَّى جاءك بحر الحياة بموجة صاخبة مسحت الصُّورة بأكملها، بل سكبت عليها خليطاً من ألوان لا تعرفها وتتنكَّر منك. وأن الفضيلة والإنسانيَّة أضحت صفات غير واقعيَّة لا يمكن العثور عليها ولا تطبيقها في زماننا هذا، وأنَّها ليست أكثر من قفزة ضعيفة في الهواء ما إن تشعر بروعة السُّمو في بلوغ قمم السُّرور بها، حتى تلبث أن تعود إلى الغرق متوَّحلة بمستنقع جديد أو هوَ أقذر؟.
أيُّها المثاليون.. الذين مازالت عندكم بقيّة من بذرة الفطرة السَّليمة.. أرجوكم بحق الإنسانيَّة، وبحق عالم الفضيلة، أن تخبروني أين أجدكم؟ و كيف أستدِّل على أنفسكم؟ لأنَّني اشتقت كثيراً لأن أرى وجهاً من وجوهكم، الصَّادقة الساطعة، في ظل الظلام الخُلقي الذي خيَّم على كثير من أعمالنا؟.
التصنيف: