نهر الترجمة بلا سدود

Avatar

[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]صالح ابراهيم[/COLOR][/ALIGN]

في الطبيعة للرياح مهام كبري في حياة الإنسان.. نشير اليوم إلي مهمة اسقاط السحب بالماء الوفير على الأرض.. تروي البذور وترعى النباتات المطرية.. وتمدها بالحياة.. كما تتوجه إلى منابع الأنهار فتفيض بالماء في مجاري شقتها الطبيعية منذ آلاف السنين.. بعضها يقصد مخرات السيول داعية الإنسان لتصحيح مساراتها لخدمة الزراعة والمياه.. والبعض الآخر قد يتسرب تحت الأرض.. يفيض أحيانا وسط الصحراء.. مكوناً واحة خضراء.. تحمي القوافل وحيواناتها من الجفاف.. أو قد تترك علامات يلتقطتها الإنسان.. ليحفر الآبار الجوفية التي يرتادها للسقيا وقد يستقر بجوارها من أجل المرعي.. والمهمة الثانية للرياح.. انها لواقح.. تحمل حبوب التزاوج للأشجار المثمرة وما أكثرها.. تمتلئ الغصون بالثمار.. وتبدأ مهمة الإنسان في رعايتها والحفاظ عليها من غزوات الطيور ومناقير العصافير.. إلي أن يحين موعد قطافها.. تتجدد الأفراح ومعها دورة النماء هذا ما تقوم به الرياح في توفير الماء أصل الحياة.. وثمار الأشجار والنباتات لاستمرار الحياة.. فمن الذي وراء اندماج الإنسانية في قرية واحدة.. من الذي تولي مهمة الانتقال الصعب من مكان إلي مكان لتنتشر ثمار الحضارة وتبادل انجازاته.. يخترق الحواجز والأنهار والبحار.. يسافر إلي المجهول.. ليدقق ويبحث ويختار.. المساهمة الكبري في هذا الأمر تعود للترجمة.. والعبء الذي قام به هؤلاء النسامي العظام في تقارب الحضارات.. والدعوة إلي السلام.. وتبادل المنافع.. وكانوا من أشد المنادين بنبذ الحروب لأنهم يعلمون ان الحرب صنو الدمار.. وان اتونها يلتهم أولاً البشر يدمر كل إنجازات الحضارة يخرب أدواتها والمعدات التي يعتمد عليها إنسان في أمور حياتهم.. بل تستهدف خطط الحرب أول ما تستهدف تدمير محطات الكهرباء والمياه والسدود والطرق.. والقائمة طويلة.
* * نعم لقد انتشرت الحضارات بأساليب وآليات متعددة.. قد يكون من بينها حتي الحروب والغزو باعتبارها الوسيلة المعتمدة لتحقيق الحلم الامبراطوري.. ولكن هناك أيضاً البعثات والوفود العلمية.. وقوافل التجار.. والمستكشفين.. وتبادل الابتكارات والهدايا بين الخلفاء والملوك \”علاقة الخليفة العباسي هارون الرشيد والامبراطور الفرنسي شارلمان\”.. ولا ننسي موجات الهجرة وما احتوت عليه من تزاوج وامتزاج في الدم وتقدير لأهمية اللغة.. ولكن العصور الذهبية للترجمة لم تكن هدف التقرب للآخر.. بقدر اكتساب معارفه وقدراته الفنية والتقنية.. سعياً وراء تقارب الحضارات.. ولذلك فقد ازدهرت حركة الترجمة دائما عند الذين يملكون مشروعهم القومي لبناء المجتمع.. ويدركون بالتالي أهمية عبور الفجوات بين المرسل والمستقبل.. ولم يكن يعنيهم المشقة في السفر أو العثور علي الوثائق.. أو الوقوف الصعب أمام مصطلحات لا يجدون لها معاني محددة باللغة الأم.. فتولوا علي مسئوليتهم وعاتقهم نحت هذه الألفاظ والاقتراب ما أمكن من معناها.. البعض بدقة متناهية.. والآخر لجأ إلي التعرف وإعادة الصياغة.. ولم يقصد أبداً الإطلال بواجبه العلمي.. وتنبأ بأن الأجيال التالية له.. ستتوقف أمام هذه المخطوطات لتحققها وتحفها ما أمكن البساطة اللازمة في المعني.. والمتناسبة مع ثقافة الشعب الذي يترجم إليه.. وكان المترجمون في صوامعهم حتي لو كانت ملحقة بقصور الملوك والأمراء مشغولون دائما بالانتقاء والاقلال ما يمكن من ثمار الترجمة الرديئة.. ولم يكن غريباً أن ينضم إلي قوافل المترجمين أمراء وعظماء وعلماء ورجال دين.. وجدوا ان الوصول إلي ذخائر الآخرين وترجمتها انما يحقق التواصل المأمول.. ويثري اللغة المترجم إليها.. خاصة إذا كانت تقبل كلماتها وذخيرتها الاشتقاق.. وهو أمر يعيد للغة التوازن ويدفع بها إلي مرحلة الفخر والاعتزاز.. وربما لم تكن الترجمة من العربية إلي اللغات الأخري بأصعب من العكس.. ربما لكثرة المترادفات الدالة في اللغة العربية علي صفات وأحوال.. نتيجة لهذا الفيض الابداعي خاصة وقد منح الله سبحانه وتعالي العرب وسكان الجزيرة العربية خاصة الابداع الشامخ في الشعر.. وعرف العالم القديم قيمة شعراء العرب.. واهتموا في عصور ازدهار الترجمة بالذهاب إلي المنبع.. للبحث عن تأثير البيئة الصحراوية.. وما تملكه من تحديد واضح لمعالم الرومانسية \”النجوم.. القمر.. السماء الصافية.. الأرض المترامية الأطراف بدون نهاية وإلي المجهول..\” وكذلك توابع الشجاعة في المعيشة وقهر السباع والنمور والضباع في التباهي بالقوة شعراً.. أو تسجيل الأحداث الكبري علي أيدي الرواة وشهود العيان شعراً كذلك..
* * ومن المؤكد ان اكتشاف حجر رشيد بلغاته الخمس في نهاية الحملة الفرنسية علي مصر قد أعطي زخماً كبيراً لحركة الترجمة بين هذه اللغات.. واقتحام أسرار الحضارات التي تزاملت في العصور القديمة.. بعد الحضارة الفرعونية مباشرة.. بالإضافة إلي المناخ الذهبي الذي حققه لاكتشافات الحضارة الفرعونية.. وترجمة ما تركه الفراعنة من أسرار علي جدران المعابد والمسلات وبعد ما أصبح لمدينة لغة هيروغليفية مكتملة المعالم.. اعتمدت في تشكيلاتها وحروفها علي الاشتقاق من الصور.. وباتت جسر عبور من أحوال الإنسان القديم إلي آمال الإنسان القادم.. ومع نجاحه في بناء حضارة متكاملة ومستقرة.. لم تخل من أدوات ومبتكرات لتسهيل البناء \”أدوات الزراعة والري التي مازال الفلاح يستخدمها حتي الآن.. وسر بناء الأهرامات ونظرياتها الرياضية الأساس المتكامل لعلم الفلك.. بالإضافة إلي أسرار التحنيط التي تقابلت مع رغبة الإنسان في الخلود.. والتي مازالت تتدفق بحساب حتي الآن.. وقد نجح فك لغز حجر رشيد في قيام حركة ترجمة كبري.. ودفعت إلي الأمام بعلم المصريات. وباتت مقابر الفراعنة وكنوزهم موضعاً للاهتمام الكبير من قبل العلماء والمستكشفين والمغامرين أيضا.. وامتلأت متاحف أوروبا وأمريكا بكنوز الفراعنة.. مما أشعل بالتالي حركة عالمية للترجمة لا تهدأ.. أكدت من ناحية أخري تعطش العالم لاستكمال ما غمض من مسيرة البشرية.. وأسفر عن حركة سفر كبري إلي مصر واقامة العديد من أقسام المصريات بجامعات أوروبا \”التي بدأت تعيش عصر النهضة والحداثة بفعل ما فاضت به علوم الحضارة العربية في الطب والرياضيات وحتي الاجتماع الذي وضع مقدمته عبدالرحمن بن خلدون.. وعرضت الجامعات الأوروبية كذلك أقسام الاسشتراق التي اتجهت إلي ترجمة الشوامخ العربية من \”ألف ليلة وليلة حتي طوق الحمامة لابن حزم\” كما بدأ المستشرقون عملهم في فحص التراث الديني.. والتعرف علي أسرار معجزة القرآن الكريم.. وكيف وحد الإسلام العرب أولا ثم سكان البلاد من الأندلس إلي الهند حول وسطية ومساواة وتعامل متوازن.. يعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله.. وكان من الطبيعي أن يقوم البعض بهذه المهمة خالصو النوايا والبعض الآخر بمقولة لغرض في نفس يعقوب.. ولكن لا ينكر أحد الدور المهم الذي قاموا به بالنسبة لحفظ وتفسير التراث الإسلامي والقضايا الصالحة للحوار والنقاش في كل زمان ومكان..
* * ومع كل نهضة شهدتها مصر.. عقب عصر من الظلام.. يأتي التنوير ومن أهم ملامحه اعتماد الترجمة وما تحمله من إشعاع ثقافي واجتماعي مهم.. تعالوا نضرب مثالاً بديوان الترجمة الذي أقامه محمد علي باشا بعد عودة الفوج الأول من الطلاب المصريين من فرنسا.. واهتمام امام البعثة رفاعة رافع الطهطاوي بتخليص الإبريز في تخليص باريز.. وشرحه للوالي عن احتياج شباب مصر الواعد لهذه الكنوز الفكرية الموجودة في بلاد الفرنجة.. والتي يعد الكثير منها حلقة وصل مع انجازات عربية وإسلامية بل ومصرية قديمة.. تعلي راية العلم وترفض دعاوي الخرافة.. وقد نجح هذا الديوان الذي اكتشف من يصلح للترجمة.. في توفير العديد من أمهات الكتب.. ونجح في مقاومة الرياح المضادة إبان حكم سعيد.. وواكب أحلام إسماعيل في جعل مصر قطعة من أوروبا.. واستمر نجاحه في عصر الاحتلال البريطاني تحت مظلة وزارة المعارف \”التي اعتبرت نفسها مسئولة عن رقي مصر رغم الخطط الخبيثة التي وضعها اللورد كرومر.. ومساعده دانلوب بهدف اقتصار مهمة التعليم علي اعداد الموظفين الصغار وبالطبع فإن حركة الترجمة الرسمية في حاجة إلي مساندة فعالة من المجتمع المدني وهذا ما تحقق بعد إنشاء الجامعة المصرية في عام 1908 بقيادة فيلسوف الأجيال أحمد لطفي السيد.. وانشئت لجنة النشر للجامعيين.. بالإضافة إلي أقسام الترجمة ودعم مدرسة الألسن.. ولوحظ ترحيب جميع التخصصات بفن الترجمة ودعم حركتها.. حتي ان قسم الصحافة بجامعة القاهرة الذي تلا معهد الصحافة العالي.. حرص منشئوه علي اطلاق اسم \”قسم الصحافة والترجمة والنشر عليه.. وزادت عدد الكتب المترجمة إلي العربية في مجالات عديدة.. وعندما قامت الثورة.. وسعت إلي التخلص من الجهل والفقر والمرض كانت الترجمة من أهم أسلحتها.. وتحقق في سنوات قليلة مشروع الألف كتاب الأولي.. بالإضافة للجهد المشكور في ترجمة أمهات الكتب الاقتصادية والسياسية لهيئة الاستعلامات.. والكتب المترجمة التي طرحتها هيئة الكتاب في الخمسينيات والستينيات بمبالغ رمزية وأقبال الشباب علي اقتنائها.. رغم ما قد يوجه إليها من انتقاد.. حول الانتقاء والاختصار خاصة فيما يتعلق بمذكرات زعماء العالم خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها.. والآن يواصل المجلس القومي للترجمة.. مهمته في ترجمة ألف كتاب أخري مستخدماً الوسائل الحديثة في النشر والترويج.. في مشروع ينتظر الجميع ثماره.. وها هي مصر النهضة تؤكد مجدداً اعتمادها للترجمة.. كان صور عصير العقل لبناء أجيال جديدة وقادرة علي اجتياز الفجوة الحضارية التي نحاول عبورها في عصر التكنولوجيا والسماوات المفتوح.. والمهم اننا نحرص علي استعادة قواعد حضارتنا.. ونبتعد عن حضارة التقليد.. لأن العقول المصرية داخل الوطن أو خارجه.. قادرة علي القراءة السليمة.. وابتكار أشكال التواصل والإضافة.. وليس طريقها أبداً التقليد.. وتحية لنساك الترجمة الذين يرفعون راية التقدم بالصبر والإيثار.
عن صحيفة الجمهورية المصرية

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *