محمد عبيد

المشهد “الناعم” والدبلوماسي الذي رسمه الرئيس الأمريكي، لسياسته الخارجية تجاه الصين، من العاصمة الأسترالية كنبيرا، وإعلانه بحث إدارته وسعيها لتحقيق المزيد من فرص التعاون مع الصين، بما في ذلك تعزيز العلاقات بين جيشي البلدين، لا يحمل في طياته أية نعومة تذكر، أو لحظة عاطفية جياشة، بقدر ما يحمل من دلالات سياسية وعسكرية أيضاً، لا تقل في مستوى الشكل عن كونها أطلقت من أستراليا، الدولة التي سيرسل إليها أوباما الجيش الأمريكي، في سياق محاولة واضحة الملامح، لحصار هدف جديد، أو إعلان حرب ضمنية على الصين ذاتها .
مواجهة الصين كقوة “صاعدة” كما تسميها نظريات العلاقات الدولية، لم تبدأ بالضرورة من أستراليا الجاثمة على الجانب الآخر من الكرة الأرضية، لكن هذه المرحلة تكتسي أهمية كبرى كونها تأتي في سياق تحول في مسيرة الانتشار العسكري الأمريكي في العالم، ما أكده أوباما نفسه، بتأكيده أن بلاده الخارجة أو الموشكة على الخروج من حربين كبيرتين في العالم، تضع على رأس سلم الأولويات الوضع في آسيا ومنطقة المحيط الهادئ التي ترى ذاتها عنصراً أساسياً أو حتى رئيساً في بنيتها الجيوسياسية والجيوستراتيجية .
وبعيداً عن دفاع أوباما المستميت عن هذه النقطة، وبالتركيز على ما تفترضه نظرية العلاقات الدولية، ونظرية الواقعية الجديدة تحديداً، في ما يتعلق بصياغة وبناء الأحلاف، نجد أن السياسة الأمريكية في القرن الحادي والعشرين لم تخرج كثيراً عن عقلية وسياسة الحرب الباردة، وإن لم تسمها كذلك، ولم تخرج عن سياسة العقد الأخير من القرن العشرين، التي بنت بموجبها نظرية “الحرب من أجل السلام” الشهيرة، التي تدحرجت وباتت كتلة ثلج كبيرة جداً، تبحث عن قوة دافعة أكبر، وعن منحدرات جديدة لزيادة حجمها .
كيف يمكن النظر إلى سياسة أوباما من هذا المنطلق؟ المعروف والمفروغ منه تقريباً، أن الحرب الباردة وضعت أوزارها بتفكك الاتحاد السوفييتي السابق، وانهيار حلف وارسو الذي بنى توازناً عالمياً، قوامه الردع المتبادل، والرعب، وكيف يمكن إسقاط مفاهيم “الحرب من أجل السلام”، على النموذج “الأوبامي” الجديد، أو المستجد، لسبل التعاطي مع الصين، كقوة عالمية اقتصادية وسياسية وحتى بشرية صاعدة، ومبشرة في ضوء ما يشهده العالم من تطورات أن زمن الأحادية القطبية العالمية بدأ يفقد مقوماته لمصلحة “نظام عالمي جديد”، كما كان الأمر عشية انتصاف العقد الأخير من القرن الماضي؟
لنعتمد تحليلاً بسيطاً قائماً على مضمون حديث أوباما الموجه إلى الصين، من أستراليا التي زارها معلناً تعزيز وجود بلاده العسكري فيها في مواجهة القوة الصينية الصاعدة، فالرئيس الأمريكي أكد أن واشنطن ستواصل جهودها لبناء علاقة تعاونية مع الصين، وقال إن “جميع دولنا لديها مصلحة في نهوض الصين السلمية والمزدهرة”، وربط التعاون بين جيشي البلدين بهدف تعزيز التفاهم ومنع “الحسابات الخاطئة” . وقرن ذلك بمواصلة التحدث إلى الصين عن التزام المعايير الدولية واحترام الحقوق العالمية للشعب الصيني . وأنهى حديثه برسالة مباشرة حول “واجب” رد التهديدات التي تستهدف السلام، الذي يجعل من المفروغ منه أن وجود بلاده جاء “ليبقى” .
هذه الكلمات المختصرة والمباشرة، تؤكد استمرار نهج ورؤية أمريكية، تجاه العالم ككل، بدأ من حيث انتهت المبررات لإغراق العالم في أتون حرب باردة، سُخّنت على جبهات بالوكالة، وصُعّدت إلى نقاط اعتبرت العودة عنها من المستحيلات، وترافقت مع سباق تسلح، وبناء أحلاف، وقسمة للعالم إلى معسكرين، لكن التفاؤل بنهاية ذاك التوازن المبني على الردع النووي المتبادل، والدخول في مرحلة جديدة، تبخرت، عندما استمرت السياسة الأمريكية على نهجها القديم، وواصلت التعاطي مع القضايا والتحديات الدولية والقوى العالمية الصاعدة، بعقلية القرن الماضي .

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *