مَاضِينَا .. وَالحَاضِرْ
نبيه بن مراد العطرجي
الحَياة لَوحَة فَنية كَبِيرة نَرسُم عَليْها كُل صُورَة جَميلَة ، والماضِي لَه ذِكْريات حِلوة تُسْعد النَفس بِذكرَاها ، فَالعصْر الذِي عِشْناه فِي كَنف الآباءْ قَبل عَقدين وَنيْف مِن الزَمان كَان يُعطِره الوِد والحُب والوئِام والاحْترام ، كَانت فِيه الأيَام لهَا رَونَق وجَمالْ ، وتَذكُر تِلكْ الأَيامْ الخَوالِي والتَبحُر فِيها يُعيِد للنَفسْ طَبيعتَها التِي تَعيشْ عَلى الفِطْرة المسْتسْقاة مِن نَاس يَحترمُون بَعضهُم البَعض ، فَلا حِقد وَلا نِفاق وَلا كِذب وَلا رِياء ، أيَام صبَاحَها يبْدَأ مَع تَلبيَة نِداء الموْلى عَز وَجل لصَلاة الفَجْر \”حَي عَلى الصَلاة … حَي عَلى الفَلاح\” لِينصَرف بَعد أدائِها كُل إِلى عَمله بنَشاطْ وَهمَة لَا مَثيلَ لهَا ، وَكنا نَحلمْ بَأنَ المسْتقَبل سَيكُون أَجمَل وَأحْلى ، وَمرتْ الأيَام دُون أَن نَحسْ بِها ، وَمع انْقضَاء يَوم تِلوَى يَوم ثُم آخَر تَغيرَت أُمور كَثيرة فِي حَياتَنا دُون أَن نُشعِر بِها ، وَأصبَح الحَاضرْ بِكلِ مَا فِيه مِن سِلبيَات مُسيطِر عَلى حَياتنَا دُونَ أَن نَسمَح لَه بِذلِك ، فَمنازِلنا العَتيقَة التِي عِشنَا أُولى مَراحِل عُمرنَا فِيهَا تَوارَت عَن الأنظَارْ ، وَشيدَ مَكانهَا أَبراجْ شَاهِقة الارْتفَاع قَضتْ عَلى مَاضي جَميلْ عِشنَاه بَين جُدرَانها ، حَتى الطُرقاتْ التِي خَطونَا عَليهَا أُولى خطَواتنَا لَم يُصبِح لهَا أثَر ، وَعادَاتنَا التِي تَربينَا عَليهَا اختَفت خَلفْ الحِجابْ ، وَاليَوم نَجتَر بَقايَا الذِكريَات الجَمِيلة التِي مَرت كَومضَات البَرق فِي حَياتِنا الماضِية عَلى أَمل لَا أَمل فِيه أنْ تَعود بَعد أَن بهَرتنَا الحَياة بِألوَانها الزَاهِية الزَائِفة ، فَالرِيح تَتجِه إِلى الأِمامْ ، وَالماءْ يَنحدِر إِلى الأمَام ، والقَافِلة تَسير إِلى الأمَام ، وَلا أَحدْ يَنظُر لِلخَلف حَتى غَدى الماضِي مَاضِي لَا يُوجَد مَن يَنظُر إِليه ، وَهنَاك مَن يَقولْ عَنه – تَذكُر الماضِي والتَفاعُل مَعه وإِستحْضَاره ، والحُزن لمآسِيه حَمق وَجنُون ، وَقتْل للإرَادَة ، وَتبدِيد للحَياة الحَاضِرة ، وَعنْد العُقلاءْ يُطَوى وَلا يُروَى ، يُغلَق عَليه أَبداً فِي زِنزَانَة النِسيَان ، يُقيَد بِحبَال قَوية فِي سِجن …. القِراءَة فِي دَفتر الماضِي ضَياع للحَاضِر ، وتَمزِيق للجُهدْ ، وَنسْف للسَاعَة الرَاهِنة ، أنْتهَى الأَمْر وَقضِي – فَهلْ يُعقَل أَن نَنسَى مَاضينَا الجَمِيل ، والمولَى تَبارَك وَتعَالى كَان يَقصْ عَلى النَبي صَلوَات رِبي وَسلامُه عَليه مَاضي الأمَم السَابقَة {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ} فَالماضِي وِسَام عِز ، وَتاجْ فَخر ، وَردَاء إِفتخَار ، وَحرِي بِنا أَن نَفتخِر بمَاضِينا العَريق الأصِيل الذِي شَع ضِياءْ الإِسلامْ مِن أَرضِه ، فَتلْك الأَيامْ الرَاحِلة لهَا وَجهٌ إيجَابي إذْ تُنمِي فِي النفُوسْ قِيم وَمبَادئ وَعادَات وَتقَاليِد وَهويَة تُميزنَا عَن غَيرِنَا حَجبَها الحَاضِر ، وَأصْبح الماضِي أَحْلام تُراوِدَنا فِي ليَالِي الأيَام .
شِعر :
ودِي أَرسُم لوْحة الماضِي الوَدِيعْ
وَأكتُب الآهَات بحُـروف الـذَهـبْ
لَــكـنْ الأيَام عَـيــّـت لَا تِــطـيــعْ
ضَاعَت دُروبِي وَأنا وَسطْ العَربْ
صَاغَت الأحْزان وَجاتْ بِها جَميـعْ
وَالله إِني مِن أعَاجِيب العَـجـبْ
صَــابـرٍ قَـلبِـي وَصـبْري مَا يـِضيـعْ
وَالـلـيَـالـي صَـبـرهَـا كُـلـه تَـعبْ
وَمنْ أصْدَق مِن الله قِيلاً {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}.
التصنيف:
