من دولة العسكر إلى جمهورية الفيسبوك (2 / 2)
[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]رائد قاسم[/COLOR][/ALIGN]
من خلال وسائل المعرفة والمعلومات والاتصالات الالكترونية فإن بعض الشعوب تتطور ببطء وتتجه نحو تفكيك نظمها التقليدية لصالح نظم أكثر حداثة وديناميكية، بينما يظل نظامها السياسي الحاكم وغيره من الأنظمة في حالة من الجمود والممانعة، مما يحدث فجوة كبيرة مع الشعب كالحالة السورية والليبية – خاصة جيل الشباب – وتزداد الفجوة اتساعا مع فشل مؤسسة الحكم في أداء واجباتها الحيوية كالاقتصاد والعدالة الاجتماعية، مما يجعل الجيل الجديد مكبلا، بحيث لا يستطيع القيام بأي نشاط بسبب تخلف نظامه الحاكم، الأمر الذي يؤدي في نهاية الأمر إلى حدوث اضطرابات وقلاقل أمنية واجتماعية وسياسية سرعان ما تتحول إلى ثورة عارمة.
من ناحية فإن الكثير من الحداثيين يلتحقون بأجهزة الحكومة الخدمية وهم على غير قناعة بثقافة النظام وأسلوبه في إدارة الحكم والسلطة، إلا أنهم يقبلون به حفاظا على مكاسبهم الشخصية ويقتنعون بما هو متاح لهم من هامش للحركة، بينما الشباب المتحفز للتغيير لا يمكنه الاقتناع بالهامش المحدود المتاح أمامه، ما يؤدي إلى نشوء حركة جماهيرية معادية للنظام، خاصة إذا ما استفحل الوضع وفشلت الدولة في أداء مهامهما وأخفقت في الإصلاح، فإذا ما تحركت باتجاه مواجهة السلطة فإن هذه المواجهة تستقطب بعد فترة وجيزة شرائح وفئات جماهيرية أخرى، الأمر الذي يرفع سقف مطالب المحتجين، ويسارع وتيرتها من الإصلاح إلى التغيير الشامل، وهذا ما حدث في كل من مصر وتونس وليبيا.
إن ما حدث ويحدث دورة طبيعية، فالتغيير والتبدل سنة كونية وبشرية، إلا أن عدداً من دول العالم الثالث لم تستوعبه بعد، إذ ظلت تتعامل مع الأجيال الجديدة من شعوبها بعقلية منتصف القرن العشرين! ففي سوريا مثلا لم يسمح النظام السوري لوسائل الإعلام ووكالات الأنباء بتغطية أحداث الاحتجاجات والاضطرابات المندلعة في سوريا حاليا منذ خمسة أشهر، إلا أن جوالات الكاميرا ومواقع الفيديو واليوتيوب نقلت الأحداث بكل وضوح وتجلٍ، فعصر احتكار الحقيقية ولى إلى غير رجعة، ولم يعد نقل الحدث من وجهة نظر واحدة متاحا بعد اليوم، ولم تعد سلطة الحكومة قادرة على التحكم في المعلومات وتوجيهها وفقا لأجندتها التقليدية.
بل وحتى التعليم خرج عن نطاق سيطرة الحكومات، فقد انتشرت مئات الجامعات التي تقدم خدماتها التعليمية بجودة عالية، متفوقة على الجامعات الحكومية، وبطرق تعليمة ميسرة ومرنة، وإذا ما كانت الحكومات تمتلك عدداً محدودا من المحطات التلفزيونية، فإن امتلاك محطة فضائية أصبح أيسر من امتلاك سيارة أو شقة!
والاتصال بمنظمات حقوق الإنسان وإيصال المعلومات للخارج أصبح عملية في غاية السهولة، وإذا ما كان إصدار صحيفة ورقية يحتاج إلى عام من الموافقات والإجراءات فإن إطلاق موقع خبري لن يحتاج إلى أكثر من 24 ساعة!.
إن المجتمع العربي في عصر المعلوماتية نجح في تنظيم نفسه، من خلال مئات الجمعيات والتجمعات الفكرية والثقافية والسياسة من خلال الحياة الافتراضية (الانترنت) والحياة العملية التطبيقية، بعيدا عن الأسلوب البيروقراطي المعقد.
لقد بدأت الثورات العربية من الفيسبوك، وكان سلاحها الإعلامي مواقع الانترنت التي تبث أخبارها صوتاً وصورة وخبرا وتحليلا، وتتصل من خلاله بكافة القوى السياسية والحقوقية الإقليمية والعالمية، إنها تدير معركتها من خلال أجهزة الحاسب الآلي، بينما العديد من دول العالم الثالث لا تزال تدير أزماتها بطرق تقليدية متناقضة مع روح العصر وتقنياته المتطورة.
إن الفرق المفصلي ما بين ثورة العسكر وثورة الفيسبوك يكمن في أن العسكر حالما ينتصرون فأنهم يتولون السلطة، بالرغم من افتقارهم في اغلب الأحيان لمهارات الإدارة، مما ينتج عنه فشل الدولة في نهاية الأمر، بينما شباب الفيسبوك يقومون بالثورة ومن ثم يسلمون السلطة للمدنيين، ويساهمون معهم في المرحلة الانتقالية في بناء نظام سياسي وحقوقي وقانوني جديد، يتوافق مع أهداف وتطلعات وثقافة الثورة، وهذا ما يحدث الآن في كل من مصر وتونس وليبيا.
لقد تغيرت الموازيين وانقلبت الأوضاع، فسابقا كان العسكر يخشون من انقلاب عسكري من داخل الجيش، فكانوا يقومون بمراقبة مستمرة لكبار قادة الجيش، وكان الطغاة منهم يصفون كل من يشكون فيه، ويقتلون على الظن، ويدينون على الزلة، وكانوا يتوجسون خيفة من نظرات عيون من حولهم ومن تلعثمهم في نطق عبارات الولاء والخضوع لهم، إلا أن الذي لم يخطر على بالهم أبدا أن الثوار الجدد سيخرجون من شاشات الكمبيوتر! وسيضعون خطط الإطاحة بهم في الفيسبوك ! وسيخفون خطط ثوراتهم في البريد الالكتروني!
إن ثورة الفيسبوك هي ثورة قطاع لا يستهان به من الجماهير، لأنها تعبر عن آمال وطموحات الجيل الجديد، والتي تناغم آمال وطموحات الأجيال السابقة وشرائح متعددة من المجتمع، والتي فشلت الأنظمة في تحقيقها فانضمت إلى صفوف ثوار الفيسبوك!
بيد إن هؤلاء الشباب الذين ضحوا بحياتهم واستقبلوا بصدورهم العارية رصاصات الموت في تلك الدول لم يكونوا ليندفعوا إلى ذلك إلا بعد أن وصلت الأمور إلى حدود غير محتملة من الطغيان وانعدام الأمل في الإصلاح، وأصبحت الدولة كمن هو مصاب بالسرطان الذي استشرى في معظم جسده ولم يعد أمامه سوى انتظار الأجل المحتوم، وفي هذه الحالة المتقدمة من الفساد تصبح الدولة العائق الأكبر أمام التنمية والتحديث والانطلاق نحو حياة جديدة منسجمة مع المرحلة الحضارية التي تعيشها معظم شعوب العالم.
ما قبل الثورة الليبية وجه القذافي تحذيراً لمواطنيه من استخدام الفيسبوك! إلا أن السيف قد سبق العذل! فبعد تورثين ناجحتين في بلدين لصيقين بليبيا، وبعد أن انفتح الليبيون على العالم من حولهم واكتشفوا كيف أنهم لا يستفيدون من ثروات بلادهم إلا النزر اليسير، وبعد أن اتضحت لهم صورة بلادهم الحقيقية أمام دول العالم بسبب سياسات الزعيم الليبي اللامسؤولة ! الأمر الذي ساهم في قيام الثورة اللبيبة التي أطاحت بدولة الكتاب الأخضر في ستة أشهر!
بيد أن أول سلاح أشهرته الأنظمة العربية التي أطيح بها مؤخرا تمثل في إيقاف خدمات الانترنت، بعد أن اكتشفت أنها إحدى أهم أجهزة الاتصال وإلا دارة والتخطيط لدى الشباب المنتفضين ونافذة ثورتهم على العالم، إلا أنها فشلت في نهاية الأمر في احتواء الموقف المتفجر فكانت النهاية الحتمية.
وفي الحقيقة ماذا يمكن لأجهزة الأمن في تلك الدول أن تفعل أمام شعوب تريد التغيير والحياة الجديدة؟ وماذا ستفعل الجيوش المدججة بالسلاح لشعوب قررت الحياة الحرة الكريمة ؟ خاصة وان الشعوب العربية من أكثر الشعوب ترابطا في الهويات المادون وطنية، الأمر الذي يجعل سلاح القتل والبطش يزيد النيران اشتعالا ولا يطفأ أبدا لهيب الغضب الشعبي المتفجر، لذلك فإن جنود الأمن والجيش سرعان ما يغيرون ولاءهم وينتصرون للثائرين ويلتحقون بصفوفهم ويتركون النظام الحاكم الذي لم يكن يمارس سلطته السياسة إلا من خلال شرعية الأمر الواقع لا من خلال شرعية دستورية معبرة عن إرادة الشعب، الأمر الذي يدل بوضح على فشل دولة العسكر في تمثيل
مكونات شعبها، وتحولها إلى عصبة للعسكر الحاكمين لا عصبة المواطنين أصحاب الأرض وسادتها الحقيقيين، على عكس ما جرى في لندن مثلا – وان كانت مجرد إعمال شغب- فسرعان ما انطفأت، وحظيت الحكومة بتأييد المواطنين، الذين استنكروا ما قام به المشاغبون، وذلك لكون الحكومة البريطانية جاءت بالانتخاب وتمارس سلطتها وفقا لمهلة زمنية محددة وبصلاحيات معينة.
إن ثورة الفيسبوك ليست ثورة على الحكومات بقدر ما هي تعبير عن الانتماء للفكر العالمي الذي يقوم على منظومة القرية العالمية الواحدة، بما تشكله من ذوبان النظم المحلية أمام طوفان الثقافة الإنسانية العابر للقارات والمخترقة لعناصر الهوية التقليدية للأمم والشعوب.
من ناحية أخرى فإن التظاهرات والاعتصامات في وضعها القانوني حسب كل دولة ليست سوى تعبير عن موقف وليست أداة للتغيير، إذ إن هذا الموقف يصل إلى السلطات الرسمية التي يحق لها الاستجابة له أو تركه وفقا لأجندتها الداخلية والخارجية، إلا أنها في دول العالم الثالث أداة للتغير، حيث تعطل من خلالها المصالح وتصاب معظم المؤسسات بالشلل، وتحدث المواجهة الشاملة ما بين جموع المحتجين والدولة، ما يؤدي في النهاية إلى ضعف سلطة الدولة وانهيار خدماتها.
إن على الدول استباق أعاصيرها العاتية بتحصين جبهتها الداخلية من خلال الإصلاح والتنمية كغاية ووسيلة وهدف، ولا يكون ذلك إلا بالإيمان التام بالقيم الإنسانية ومخرجاتها العملية والتي أصبحت جزءاً من الثقافة الإنسانية العالمية التي ضحى من اجلها ملايين البشر عبر التاريخ المديد للأمة الإنسانية.
التصنيف: