[ALIGN=LEFT][COLOR=blue] خيري منصور [/COLOR][/ALIGN]

في هذا العالم الذرائعي الذي توزن الدموع فيه بالقبان قد ينتهي الراديكاليون الذين رفعوا شعار الكل أو لا شيء الى ما انتهى اليه الغراب الذي صاح عند الغروب آه على ذبابة ، وقد لا يسمحون لأنفسهم بهذا المصير فيغادروا العالم غير آسفين عليه. قبل أربعين عاما كان الوعد غير ذلك تماما لكن التاريخ ذاته تحول الى عرقوب ، وسرعان ما أنشب مخالبه في لحم الابرياء الذين أنشدوا للحرية والسلام ، لأنهم نسوا للحظة ان البشرية لم تقلع تماما من الكهف الاول وان معادلة القوة والضعف خالدة ، وان الجناح لا يقوى على الناب، هذا ما أفكر به وأنا اتصفح كتابا أو مجلة أو اشاهد فلما من زمن يقال عنه بأنه ذهبي أو أنه فردوس مفقود.. وحقيقة الأمر ان البارحة لم تكن أجمل من اليوم ، لكننا نقرأ عنها ولا نعيشها ، فيبقى منها ذلك الوهج الرومانسي ، وتحرمنا النوستالجيا من تأمل الشرور التي كانت تحصد البلاد والعباد ان قراءة التاريخ قد تقدم للانسان المنكوب والمنكود في زمانه عزاء من طراز آخر ، بحيث يدرك ان العذاب لم يكن من حصة جيله فقط.
فالظلم والفقر والأحزان هي مواسم أبدية في تاريخ يتكرر ، لكنه احيانا يتكرر على نحو كوميدي ، فيصبح شرّ البلية ما يضحك اكثر مما يبكي ، لكن هل معنى ذلك ان الانسان يستسلم لشرطه الارضي ويحوله الى قدر لا فكاك منه؟ ما دام الفقر والمرض والجهل هو الثالوث العصي على كل الوصفات؟
بالتأكيد ليس الأمر كذلك ، لهذا لم يتقاعد العقل البشري منذ المحاولة الاولى أو منذ الفشل الاول ، والمفاتيح التي تكسرت في الأقفال يجب عدم تكرار استخدامها ، وهذا ما يسميه علماء الاجتماع والاناسة التطور ولا ادري لماذا يغيب عن الساسة ومن يدورون في فلكهم ان السياسة هي في النهاية علم تغيير المجتمع ، والبحث عن صيغة قابلة للصرف من أجل تخفيف الشقاء ، وجعل الاقامة في هذا العالم محتملة..
لقد احس بعض الامريكيين في وقت مبكر نسبيا ان هناك فقدان توازن بين العقل والقلب وبين القوة والعدل ، واخيرا بين الفولاذ والحرير بمعناه الرمزي.. وحذروا ساستهم من هذا الخلل ، لكنهم لم يسمعوا ، واخذتهم العزة بالاثم فانتهوا الى هذا الخريف الامبراطوري الذي لم يبق حتى ورقة توت لستر العورة، ولا أدري لماذا صرنا نضيق ذرعا ونصاب بالاختناق عندما نقرأ أو نسمع تحليلا معمقا للظواهر التي نعيشها ، ويبدو ان عصر الايقاع السريع والوجبات الجاهزة أفرز أفكارا ومفاهيم من طراز ما يسمى «الجانكي فود» فنحن نقدم احصاءات بالغة الدقة عن الفقر لكننا لا نفكر باسبابه الجذرية ، وكذلك الجهل وسائر محاصيل الشقاء..
هذا الانقطاع بين الاسباب والنتائج قد يفرض علينا المراوحة والتكرار الى ما لا نهاية. رغم ان معرفة السبب تبطل العجب ، لكن علامات التعجب التي تملأ رؤوسنا هي الحصيلة المنطقية لغياب البحث عن الأسباب .
الدستور الأردنية

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *