ملاحظات سريعة في رحلة عابرة

Avatar

[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]السر سيد أحمد[/COLOR][/ALIGN]

كان السائق الذي أقلني من الفندق في العاصمة الأمريكية واشنطن إلى المطار أثيوبي الجنسية.
وكعادة الأثيوبيين الذين هاجر معظمهم عبر السودان ويحملون عنه أجمل الذكريات، خاصة ولغالبيتهم كان الاحتكاك مع السودانيين أول تجربة لهم مع العالم الخارجي. أخذ السائق يحدثني عن فترة السنوات الأربع التي قضاها في السودان معاصرا آخر أيام الرئيس الأسبق جعفر النميري، فالفترة الانتقالية تحت قيادة عبد الرحمن سوار الذهب، فحكومات الصادق المهدي حتى غادر السودان في بداية حكم الإنقاذ وتولي عمر البشير السلطة. ولم يكن وحده الأجنبي الملامح. فالكثير من نزلاء الفندق كانوا من دول أجنبية حضروا إلى واشنطون للمشاركة في أنشطتها المختلفة وعلى رأسها الاجتماعات السنوية للبنك وصندوق النقد الدوليين، لكن ما يلفت النظر حقا السحنات الأجنبية التي أصبحت ملحوظة وغالبة في المجتمع الأمريكي. بل ويمكن القول باطمئنان أن قطاع سيارات الأجرة من تاكسيات وسيارات الليموزين تكاد تكون أصبحت حكرا على ذوي الأصول الأجنبية حتى وان كانوا يحملون جوازات السفر الأمريكية أو البطاقة الخضراء، حيث من النادر العثور حتى على أمريكي من أصول أفريقية يعمل في هذا المجال.
والظاهرة ليست قاصرة على واشنطون وحدها. ففي لندن تكاد نفس المجموعات تسيطر على نشاط الميني كاب. وعندما عبرت إلى كندا كانت البلاد تعيش في الأجواء الانتخابية التي اكتملت قيل يوم من وصولي. وفاز في المنطقة التي أقيم فيها مرشح هندي سيخي من الحزب الليبرالي المعارض تقدمه عمامته قبل برنامجه، وذلك للمرة الثالثة على التوالي وبفارق يزيد على ستة آلاف صوت على منافسته من حزب المحافظين الحاكم. ولا غرابة فأكثر من 60 في المائة من سكان الدائرة من أصول أجنبية.
وإذا كانت الهيمنة البيضاء التقليدية في طريقها إلى الاضمحلال حتى داخل بلادها، فأن تطورات الأزمة المالية الأخيرة فتحت الأعين على أن الولايات المتحدة لم تعد لها الزيادة في كل شيء كما كان الأمر سابقا. فأعلى مبنى في العالم يوجد في تايبيه وتسعى دبي إلى تجاوزه، وأضخم صناعة للسينما أصبحت في الهند، بولي وود لا هوليود. وقبل أربع سنوات بلغ عدد خريجي الهندسة في الصين والهند 950 ألفا مقابل 70 ألفا في الولايات المتحدة، وحتى إذا أستبعد خريجو الكليات، فأن الأرقام تتقارب، لكن معظم هؤلاء المهندسين الخريجين من أصول أجنبية، حيث يشكل الطلاب الأجانب النصف على الأقل. ويتوقع أن يصبح 75 في المائة من حملة درجة الدكتوراه في ميدان العلوم من الطلاب الأجانب في غضون عامين فقط. وإذا تم استيعاب هؤلاء في النظام الأمريكي فأن خبراتهم ستبقى معهم وإلا فأنها ستعود معهم من حيث جاءوا.
ويعتبر هذا هو التحول الكبير للمرة الثالثة في التاريخ المعاصر كما أطلق عليه فريد زكريا، محرر الطبعة الدولية لمجلة نيوزويك ومؤلف الكتاب الجديد عالم ما بعد أمريكا الصادر حديثا. فموجة التحول الأولى تبلورت ببروز الغرب في القرن الخامس عشر ليضع بصماته على مختلف مناحي الحياة ويبسط هيمنته على العالم. ثم جاءت الموجة الثانية في خواتيم القرن التاسع عشر ليبدأ العالم دخول الحقبة الأمريكية التي بلغت من القوة حدا جعلها تقف ندا لأي تجمع عالمي، وهي المرحلة التي وصلت قمتها بتفردها الدولة العظمى الوحيدة في العالم مطلع العقد الماضي التي لم تواجه بأي تحد طوال عقدين من الزمان، وهو ما لم يحدث من قبل في التاريخ.
لكن هيمنتها هذه دفعت إلى تسريع عولمة بقية العالم وإتاحة فرص عبر النمو الاقتصادي الذي غطى مناطق كثيرة من العالم وأتي بنتائج ايجابية لصالح العالم بصورة عامة، لكن من الناحية الأخرى أسهم في الوضع الحالي إذ كان من ضحايا هذه العولمة التفرد والهيمنة الأمريكية إذ أتاحت السبيل للاعبين جددا أن يبرزوا على المسرح. ولعل خير تعبير عن هذا ثورة الاتصالات والإعلام التي قلصت إلى حد ما سيطرة وسائل الإعلام الغربية التقليدية، إذ أتاحت لوسائل أعلام أخرى أن يكون لها حضور مواز، كما سمحت للمتلقي أن يكون مشاركا وأن يطلع على الأحداث لحظة وقوعها.
وتبدو المفارقة واضحة بين واقع اليوم الإعلامي وما كان عليه في عقد الثمانينات مثلا. فوقتها كانت دول العالم الثالث تسعى جهدها لأسماع صوتها ونجحت في إصدار قرار من اليونسكو بتبني نظام إعلامي عالمي جديد رأت فيه الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة أنه تدخل في حرية الإعلام لصالح الحكومات، وصحبت اعتراضها هذا بالانسحاب من اليونسكو. وأذكر إنني التقيت بعدها بسنوات بالسياسي الأيرلندي شون ماكبرايد رئيس اللجنة التي أوصت بالنظام الإعلامي الجديد وسألته إذا كان مصرا على رأيه. فأجاب بالإيجاب ذاكرا نموذج خبر تبثه إحدى الوكالات الأجنبية التي تتحدث عن مقتل جندي فرنسي أو أمريكي، لكنها لا تشير إلى عدد القتلى من شعوب العالم الثالث، حيث توجد تلك القوات الفرنسية أو الأمريكية.
لكن مع ثورة الاتصالات التي جعلت الأخبار تبث على مدار الساعة وتوفر القدرة التقنية التي جعلت من الممكن تلقي الخدمات الإعلامية في أي مكان في العالم، فأن تلك الهيمنة والتفرد أفسحا مكانا لحضور آخر، وهو ما عبر عنه فريد زكريا في كتابه المشار إليه، ويتحدث عن أن مرحلة التحول الثالثة تتميز بإتاحتها الفرصة للآخرين أكثر من حدوث تدهور للقوة الأمريكية مثلا. فهذه مرحلة تؤثر فيها أماكن عديدة وخلق كثيرون. ويضيف أن هذه التعدد مرفودا بثورة الاتصالات أعطت الإحساس بتنامي حالة العنف والاضطراب حول العالم رغم أن الواقع قد يكون أفضل. ويضرب مثلا أن الحرب بين العراق وإيران التي استمرت ثماني سنوات ومات فيه عشرات الآلاف لم تجد حظها من تغطية مباشرة تنقل صور الموت والدمار إلى المشاهدين.
هذا الحراك الاجتماعي على المستوى العالمي يلمسه الإنسان في كل مكان وبكل تبعاته.
وأذكر قبل بضع سنوات كنت استقل أحد المركبات العامة مع قريبة لي في لندن في مشوار لمدة نصف ساعة لم نسمع فيها اللغة الانجليزية تنطق إلا مرة واحدة. وعبر البحار وفي السودان قمت بزيارة في أحدى المرات إلى مسقط رأسي قرية قنتي في الولاية الشمالية وفوجئت بحي كامل مسكون بعدة آلاف من البشر من الذين نزحوا بسبب الجفاف الذي ضرب غرب السودان في الثمانينات ليستقروا في قنتي، بينما هناك ستة منازل للأسرة متجاورة يسكنها واحد فقط من أفراد العائلة.
فالذي يجري في سودان اليوم هو صورة مصغرة، مما يجري في بقية العالم من نزوح ومتغيرات ديمغرافية تسعي إلى ترتيبات جديدة لقسمة السلطة والثروة واستيعاب قوى بشرية لم تكن ممثلة من قبل في الإطار السياسي والاقتصادي، مع الفارق أن حالة الانتقال هذه أنما هي في واقع الأمر مخاض صعب بسبب ضعف المؤسسات أو غيابها وعدم التعويض عنها بالجهد الفردي الذي لعب دورا في مرحل تأسيسية سابقة. وفاقم في هذا الوضع أن كل قضايا التحديث بأبعادها المختلفة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا هجمت في وقت واحد وبالصورة التي تعيد السودان كله إلى منصة التأسيس مرة أخرى.
وفي غياب أو تباطؤ الحلول تتسارع الأزمات التي يأخذ بعضها برقاب الآخر.
عن الأخبار السودانية

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *