مشاهد من حياة سوق الجامع في السبعينيات ( الجزء الثاني )
تطرقت في مقالي السابق إلى مشاهد من حياة سوق الجامع، شملت تعريفًا بالموقع وذكرت مشاهد غطت الجزء الشرقي للقادم من سوق البدو حتى بداية المسجد العتيق “مسجد الشافعي”، مع العلم أن الجزء الغربي من السوق كان مغطى بسقيفة جملون خشبية (الجملون شكل هندسي يظهر الجزء العلوي من المثلث)، والتي تم إزالتها بكاملها للأسف في نهاية الستينات الهجرية.
ويصطف على جانبي السوق من الناحيتين الشمالية والجنوبية عدد كبير من الدكاكين التي كانت مسقفة، وجميعها أوقفت من أهل الخير لمسجد الشافعي.
المتجه غربًا من عند المسجد إلى نهايته يمر بثلاث أزقة متعامدة مع السوق. عند نهاية المسجد وتحت المئذنة الشامخة التي صدحت بالأذان لأكثر من ألف عام، من عندها زقاق للمتجه شمالاً وغرب مسجد الشافعي، حيث تجد بيت مكي حكيم وبعده مدخل مسجد الشافعي الغربي، وكان للمسجد مدخل صغير من الجهة الشرقية لكُتاب السيد سعيد عطية، ومن بعده ابنه الشيخ سالم عطية (رحمهما الله). وتجد أمامه بيت الشيخ والفقيه حسن أبوالحمايل (إمام وخطيب مسجد الشافعي) وبجانبه بيت المغربي.
ويتبعه زقاق آخر متجه أيضًا للشمال بعد بيت عبدالعزيز المكتوم (والد الأستاذ إبراهيم شرقي ) تجد فيه فرن الصعيدي(عبدالعال) على اليسار والذي اشتهر بالشُريك( بالحمص المطحون والشمر ويزين بالحبة السوداء) وأنواع الشابورة (بالسمن أو زيت الزيتون). ومازال فرن الصعيدي موجودًا وسمي الزقاق مؤخرًا (زقاق فرن الصعيدي).
للمتجه شمالًا يصل إلى برحة البستاني التي تجد فيها عدة بيوت لعوائل جداوية، مثل محمود عشماوي وعبدالله عيد وراجح ويحي وسلامه الربان.
ثم الزقاق العمودي الثالث متجه للجنوب ممثلاً نهاية السوق مرورًا في صدر السوق بمطبخ فروان، وبعده بيت المرحوم عبيد قرشي(تاجر الجلايل بسوق الحراج) على اليمين وتجد بيت لجدي طه صابر كان يسكنه آل الريري، وفي نهاية الزقاق تصل إلى برحة حسوبة ، حيث مركاز الشيخ حسن حنبولي عمدة حارة المظلوم المتعاقب بعد الشيخ علي شحات (رحمهما الله).
خلف دكاكين وقف الشافعي الجنوبية تجد بيت جدي لأمي بالرضاعة المرحوم حامد أبوزنادة، وبيت يوسف الصمدي وبيت محمد عصابي وأمامهم بيت زيني طه وبيت عبدالله عبدالدايم الذي سُمي الزقاق باسمه حديثًا.
واستمرارًا في سرد المشاهد، أورد بعض ما بقي في الذاكرة كالتالي:
• عقلاء كُثر” أخذوا فلوسهم معاهم!!” …حيث أوقفوا لمسجد الشافعي الكثير من الدكاكين والدور في حارة المظلوم وحواري أخرى بجدة. وأشهر تلك الدور وقف محمد صالح أبو صالح (أبوصالحة) وقيل وقف أبوزهرة (مازلت أبحث عن توثيق)وهذا البيت ذو تصميم وبناء مميز، مكون من أربعة أدوار ومبيتين في السطح وله نظام تهوية وإنارة خاصة ، تجدها في الجلا (المِنْوَر ) وتصاميم الرواشين المعشقة والمفرغة للتهوية.
الدار سكنها أبوصالحة، والشيخ محمد توفيق حسن والد الشاعر يحي توفيق (شافاه الله)، كما سكنه خالي عبيد محمد عابد (رحمه الله).
أقترح على الأوقاف ترميم البيت وإعادة تأهيله ليكون فندقًا. ولا يفوتني بيت عبدالسلام رضوان المميز أيضاً والذي يفصل بينهما بازان المظلوم، بيت يضاهي وقف أبوزهرة/أبوصالحة في تصميمه وبنائه المعماري، ليكون فندقًا آخر أمام مسجد الشافعي.
• سَألتُ وبحثت قليلًا عن سبب تسمية مسجد الشافعي ولم أجد مايفيد، وقد يكون في فترة من حياة المسجد التي ارتبطت فيه فتاوى وطرق الأئمة مُتبعين للمذهب الشافعي!!!ولذلك قد سمي بهذا الإسم، وأتمنى أن نجد من يُفيدنا بسبب التسمية الموثق.
• أتذكر المرحوم ألماس خميس وهو ينزل بعكازه داخلاً من الباب القبلي لمسجد الشافعي ويتعدى العتبة المانعة لدخول ماء المطر ، ثم ينزل حوالي أربعة درجات عالية حتى يصل للصف الأول من المسجد لأداء الصلوات التي حرص على أدائها في المسجد (رحمه الله وأنار قبره). وفي أحيان كثيرة كان السيل يدخل إلى ساحة المسجد الوسطى المفتوحة، ويتم الإستفادة من ماء المطر وتوجيهه للصهريج الكبير في ساحة المسجد خلف المكبرية.
• كان ماطور الكهرباء عند محراب المسجد من الناحية القبلية أمام دار العم عبدالوهاب ساعاتي، الذي كان يُؤجًرُ سلك اللمبة الواحدة بخمسة ريالات في الشهر وذلك بعد التوسع في استخدام المولدات الكهربائية الفردية وقبل إنشاء الشركة السعودية للقوى الكهربائية بجدة التي تأسست عام ١٣٦٩ هـ.
• مطبخ محمود حلواني الذي كان أمام بيت رضوان، مشهور بعمل (الحلاوه الرُبعي) وهي حلاوه قديمة تصب في قوالب نحاسية من خليط السكر والنشاء مع لون وردي غامق. وتوزع الحلوى الربعي في حفلات الرحماني للصغار (الاحتفال بالمولود) حيث يشكل منها أشكال عرائس ، بواخر ، منائر وجمال ويوزع معها الشريك (طحين حُمُّص مع الشمر ويُزين بحبات البركة السوداء). أتذكر محمود حلواني عملت عنده حلاوه ربعي لرحماني ابن خالتي فهد فؤاد خُميس قبل أكثر من أربعين عامًا ، ورحماني آخر لإبنتي سنابل (أم طلال).
• أحمد ومحمد يوسف معلمي المقلية بدآ تقديم منتجهما اللذيذ في سوق الجامع …. ونقلا بعد ذلك إلى حارة الشام أمام وقف الرشايدة، وأحفادهم نقلوا إلى عمارة باحميد شمال مبنى العين العزيزية حاليًا. تتكون المقلية من الكشري المطحون بالكرات “كراث” والذي يقدم مع سلطة الكرات المطحونة مع الفلفل بالخل، وسلطة الحُمر التان تغمسان بالشريك. أكلة لذيذة لا أنساها ..!!
• كان للعم عمر بالصقع (رحمه الله) دكانان في أول السوق المسقف، محل فول في الركن الجنوبي الغربي للمسجد ، وآخر أمامه في الناحية الجنوبية من السوق ، بقالة يباع فيها الحبوب والمعلبات والمشروبات الغازية (كراش، تيّم، منجا قها وخلافه) بالإضافة لآيس كريم “ولز “حيث يصطف الأطفال لشرائه في أول وصوله لدكان عم عمر بدلًا من الدندورمة (آيس كريم بالتركي)القديمة التي كانت تباع في عربات الدوندورمة المتجولة.
• سوق الجامع هو السوق الوحيد الذي تجد فيه عيادتي (مركب أسنان) . العيادة الأولى لحسن أبو السنون في طرف بيت عبيد قرشي، والعيادة الأخرى لعلي عباس شرقاوي في بيت مكي حكيم غرب مسجد الشافعي. وعيادة ثالثة في حارة المظلوم في طرف بيت الجمجوم لمركب الأسنان عمر جادالله .أشهر ما أتذكره عن مركبي الأسنان …. ما يسمونه (الكلبتين) أي زرادية لخلع سن العقل والسنون عمومًا!!…. عافانا الله وإياكم.
• هاجر إلى جدة خمس عوائل قصيمية من (منطقة القصيم) قطنوا بحارة المظلوم بعد نهاية سوق الجامع. في زقاق الصنيع والزقاق الموازي الذي فيه بيت العم عبيد قرشي والعم سعيد باديب. وهذه العوائل” الصنيع، البسام، التركي والهويش (خيلان منصور الزامل)”،بينما بيت المكتوم في زقاق فرن الصعيدي كما ذكرت سابقًا.
اندمجت العوائل وأصبحوا جزءًا من المجتمع الجداوي الإجتماعي والتجاري.
• هناك عدة مهن في سوق الجامع لم نتطرق لها، ونجملها بعرض سريع…..بائع فحم في دكاكين وقف الشافعي الجنوبي وأمامه كُتاب الفقيهة حلواني وبجانب بائع الفحم دكان المزين (حلاق) حسن باتا…..فبالإضافة للحلاقة كان يقوم بتطهير المواليد الذكور. وفي نفس الصف تجد قهوة “غالب” بها طاولات صغيرة وكراسي الخيزران وتقدم القهوة بالإضافة لشيش الحُمِّي (تنباك)… وتقدم الشاهي التلقيمة لروادها وباقي أهل الدكاكين. وعلى يمين القهوة تجد بائع التقاطيع محمد حسن وعلى يسار القهوة تجد عثمان بائع الشربة الحب ( مع الكرشة) . وفي الضحوية تجد مرتادي الأكلات الشعبية لتناول التصبيرة (طعام خفيف بين الوجبات) ويكيف من يريد برأس حُمِّي!!.
صراعات الحياة تلتهم القديم بالجديد بما يلائم متطلبات التغيُّر.
بقي سوق الجامع ببقاء مسجد الشافعي والجاري ترميمه بأساليب تحافظ على قديمه وتُبقي أثره وأهميته..
رحلت معظم مهن المعامل والمعاصر والحوانيت والأفران ومابقي منها في سوقنا إلا فرن الصعيدي ودكان العم “عمر بالصقع “الذي يديره أبناؤه “لتجارة الإستيراد والبيع بالجملة” وعمومًا تحول السوق بعد مغادرة أهل حارة المظلوم وسكانه القُدماء إلى بيع الأقمشة والعطور والملابس الجاهزة.
الأسواق تمثل نبض الحياة،يُسعى فيها لكسب الرزق وتظهر فيها الصفات النبيلة بتكاتف أهل السوق ومرتاديه في العيش والتعايش. كذلك كان سوق الجامع الذي عشنا فيه مشاهد من حياته القديمة وهناك مشاهد كثيرة أخرى نترك مساهمة من عاش معنا في السوق وحوله ليذكرنا ويسطر الأثر.
[email protected]
————————————
ملاحظات:
١-شرفني مع الشكر والتقدير الأخ سالم عبيد قرشي بزيارتين لسوق الجامع ، مساهمة منه في تذكر المشاهد التي مضت.
٢-ذُكر بالخطأ في الحلقة السابقة اسم محمد معروف كعمدة لحارة المظلوم بدلا من اسم والده الشيخ حسين معروف (رحمهما الله).
التصنيف: