عبدالرحمن آل فرحان

\”حين سقطت في قبضة الأسر، لم أجفل.. ولم أصرخ، رغم ما كان يعصف برأسي،، كنت أرى خارج هذا المكان، الغضب والدموع، يلوحان في الأفق، تحت رعب الظلال،، لكنني بعد هذه السنين الطوال، لم أعد خائفاً،، ولا زلت أبحث، لم يكن مهماً كيف كان الباب ضيقاً،،ولم يكن يعنيني كم كلفتني العقوبات \” .
هذه القصيدة التي كتبها الشاعر الإنجليزي ( ويليام إرسنت هينلي ) في أواخر القرن التاسع عشر ما كانت لتكتسب كل هذا الزخم وكل هذا التخليد لو لم تكن ذات يوم وقوداً لنضال رجل أفريقي أسود قادته تطلعات العيش بحرية لأن يقبع خلف قضبان من الحديد البارد ، داخل زنزانة ضيقة بالكاد تستوعب طفلاً ممداً !! فما بالكم برجل بالغ في أواخر الثلاثين من عمره ، كان يصدح بها مستلقياً على حصير سجنه الرث تارة ، ومتقرفصاً في زاويته المظلمة تارة أخرى ، كانت أغنيته وهو ينتظر انفلاق الصبح البعيد في جزيرة نائية تسمى ( روبن آيلاند ) .. الصبح الذي لم تشرق شمسه إلا بعد مسيرة عقدين ونصف من الزمن ، إنه الزعيم الجنوب أفريقي ( نيلسون مانديلا ) أو كما يسميه الشعب هناك ( أبو الأمة ) ، سليل العائلة المالكة ( تيمبو ) الذي ملأ اسمه الآفاق ، وترددت سيرته على كل الألسن وبكل اللغات.
ولأن سِيَر العِظام لا تخلو من المفارقات .. فإن المفارقة في سيرة هذا الرجل كانت ما بين السجّان والقصيدة !! أو بالتحديد ما بين ( الأبارتيد ) و( إرسنت ) حيث كان مولد الأخير في العام ( 48 ) من القرن التاسع عشر ؛ بينما كانت ولادة الأول – نظام الفصل العنصري ( الأبارتيد ) – في العام ( 48 ) من القرن العشرين ، وما بين الولادتين كانت ولادة هذا الرجل الأسطورة الذي استلهم من الولادة الأولى ما يستقوي به لمناهضة الولادة الثانية ، هذا الاستلهام لم يزل محفوراً حتى يومنا هذا على جدار السجن الذي اكتنف صرخاته وأنين عذاباته .. يتمًثّل هذا الاستيحاء في البيتين الأخيرين من القصيدة : \” أنا سيد قدري .. أنا سيد روحي \” اللذين لا زالا منقوشين هناك.
لقد مات الزعيم مانديلا عن عمر يناهز 95 عاماً.. ثلاثون منها حيرة وتردد .. وأربعون كانت للنضال والثورة والاعتقال ، كأنها السنين الطوال التي كان يعنيها إرسنت في قصيدته الملهمة والتي بها اشترى مانديلا الحرية .. ليس من أجله وحسب !! بل من أجل أمته من بعده ، لذا ليس غريباً أن يسميه الناس هناك ( أبو الأمة ) ، وأبو الأمة شأنه شأن غيره من الأساطير التي خلت ..لابد وأن يأتي اليوم الذي فيه يترجل عن صهوة جواده تاركاً خلفه اسمه ( كأيقونة ) للثائرين ، وسيرة خالدة ذائبة في وجدان الأجيال المتعاقبة سواء في موطنه ( جمهورية جنوب أفريقيا ) أو حتى في جمهورية الباحثين عن الحرية والانعتاق في كل شبر من الدنيا ، والحقيقة أن مانديلا سيظل قيمة خاصة في ضمير الإنسانية كلما لاحت في الأذهان صورة من صور التمييز العرقي بل وكلما تجددت على الأرض مشاهد الظلم والقهر والإذلال كنقش سرمدي في جدار اللامستحيل ..تماماً كجدار ذلك السجن الكائن في جزيرة روبن آيلاند والذي على وجهه رسم السجين نقش الإصرار بخط منهك:( أنا سيد قدري .. أنا سيد روحي ).

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *