[COLOR=blue]مــــزوار محمد سعيد[/COLOR]

تعتبر اللغة من الثوابت لدى أيّ أمّة، تلك التي سماها البشير الإبراهيمي بـ: \”المقوّمات\”، وعلى هذا الأساس فإنّ هذا الثابت لا بدّ له من صيانة خاصة، و إنّ أسلم صيانة لها، هي صيانة يقوم بها الفكر، أو تلك التي تتبناها الفلسفة، فكانت اللّغة عاملا حاسما في دخول الفلسفة إلى دائرة ثوابت الأمم، عبر اتخاذ اللّغة موضوعا للدراسة. وفي هذا الإطار قفز إلى الواجهة المعرفية اتجاهان يشتركان في دراسة اللّغة، فالأوّل يقول بأنّ اللّغة هي أداة فقط، تجرّ الفرد إلى التصرف وفق آليات، و بإمكانه تبديلها والأخذ بغيرها كلما أراد، وهي بالتالي وسيلة ربط بين التعبير والمعبَّر عنه. أمّا الثاني فهو يقول بأنّ اللّغة هي الإنسان، والبشريّ بلا لغة آبائه وأجداده ما هو سوى آلة تحركها ثقافة غيره عبر اللغة التي اكتسبها. بينما هناك من يتمرّد على هؤلاء، جاعلا من اللغة رغبة شخصية إن تعلق الأمر بلغة ثانية، و مسألة قومية إن دار الحديث عن اللّغة الأم. ومن هنا، وبناء على ما تقدّم في هذا النص: هل اللّغة ضرورية لإثبات هُوية الفرد؟ أو على الأحرى: هل يمكن للإنسان اختيار لغته؟ .
يرى الفيلسوف فخته \”أنّ رمز وجود الأمة، بقدر أصالة اللغة، والمحافظة على اللغة الأصلية أو بفقدانها تكون المجموعة البشرية أمة وشعبا أصيلا، أو مجرد شتات فـحسب\” و بهذا فإن اللّغة هي أساس الوجود، والإنسان الذي يتخلى عن أصالة لغته فهو يستقيل من الوجود بكامله، ومن هذا المنظور، فإنّ إثبات الفرد لمكانه في هذا العالم هو في مدى تمسّكه باللغة التي وجد أهله الذين سهروا على تربيته يتكلمون بها، و يذهب مالك بن نبي إلى القول: \”التعبير عن فكرنا باللغة الأخرى يكتسي أحيانا مظهر الجهل الكامل بالثقافة الوطنية، إذا لم يكن خيانة لها\”، وهذا تصريح واضح بأهمية التكلم باللغة الأصلية، حتى أنّ الفيلسوف الجزائري ذهب إلى اتهام المتكلمين بلغة غيرهم على أنّها \”خيانة\”، وفي هذا وجود لرفض اللغات الأخرى أثناء الاستعمال.
اللغة ليست أمرا اختياريا، كما الوالديْن بالضبط، واللحظة التي يختار فيها الإنسان لغته الأصلية هي نفسها اللحظة التي يختار فيها والديّه، وهذا مستبعد الوقوع على هذا النحو، فهو أمر يستعص عن المنطق أيضا، لأنّ الأمور التي لا نتحكم فيها هي تشمل لغتنا بطريقة واضحة.
هناك فئة أخرى ترى أنّ اللغة مجرد لباس يجعلها الإنسان محل اختيار أينما أراد، ولا يخفى عن أيّ باحث دور فهم و استخدام اللغات المتعددة في البحث الأكاديمي، وهناك لغات توصف باللغات العالمية، وهي ضرورية لفهم المواضيع العلمية، وليس هناك أيّ إحراج إن استعملت بطريقة نفعية، وبهذا فاللغات المتعددة هي ذخيرة الباحث الذي يطمح في القيام ببحث جاد له قيمة علمية كبيرة، والأمثلة على فلاسفة عرب ومسلمين كثيرة، ممن كانوا يتقنون الكثير من اللغات، لعلّ أبرزهم ابن رشد ، والذي كان يتقن أربعة لغات، دون أن يجعل المساومة على لغة واحدة مثار نقاش، وهذا يجعل من التكلم بلغات أخرى إضافة له، وحملا مساعدا على اقتحام منابر غير المحلية منها.
وأما بالنسبة لفلسفة اللغة فإنها تلعب دور الشرطي بين هذه الاتجاهات الفكرية، فهي التي تدخل \”اللغة\” المخبر، فتحدد ماهيتها، وتوضح دورها، وتستشعر تأثيرها، وتعطي للإنسان كافة الأسباب التي تجعل منه كائنا لغويا، فإما كانت اللغة اختيارا أم إجبارا، ففلسفتها هي التي تجعل الفرق بين القضيتيْن ذا معنى، وهي التي تتخذ من البساطة طريقا للوصول إلى القناعات.
القدرات اللغوية تختلف من فرد لآخر، وهذا يدخل ضمن نطاق الفروق الفردية، فالإنسان له مميزات وعتبات، لا يمكنه تجاوزها، مع أنّ المناهج المعاصرة أثبتت أنّ صناعة فرد حرباويّ اللسان ممكن، إن توفّرت الإرادة والإمكانيات التعليمية لذلك، والدراسات النفسية التي يشير إليها فخته بيّنت أنّ \”اللغة تؤثر على الشعب (فضلا عن الفرد) المتكلم بها تأثيرا لا حدّ له، يمتدّ إلى تفكيره، وإرادته، وعواطفه، وتصوراته، إلى أعماق أعماقه…. إلى درجة أنّ الشعب (فضلا عن الفرد) المتأثر بلغة أجنبية يبتلع دون شعور حتى الشتائم الموجهة إليه، و يتبنّاها، و يوجّهها إلى نفسه رغم أنّها ضده…\”
لكن يجب التفريق بين لغة الاستعمال، ولغة التعامل، فالأوّل هو محبوب، بل وفي مواضع كثيرة يتحوّل إلى وجوب، بينما الثاني هو مسخ للشخصية القومية لغويا، وهو تدمير لتفاصيل الحياة اليومية، وذوبان غير مبرر في عباءة أخرى أجنبية عن الأصل، فكيف إن تحوّل النوع الأوّل إلى الثاني؟ …. إنها كارثــــة.

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *