لاغو يتذكّر… وكم من لاغو لدينا بعد

Avatar

عبد اللطيف مهنا

قضايا ومناقشات منذ بداية مشروعه الاستعماري قبل قرون، ادرك الغرب أنه، وبرغم مما أتاحه له الظرف التاريخي من تفوق شامل لكافة المجالات على أمة تكابد أثقالاً تراكمت لتخلف فرضته عليها مرحلة تاريخية امتدت لأكثر من اربعمائة عام لم تحكم فيها نفسها، أنه لن يستطيع إخضاعها والهيمنة عليها والتحكم في مصائرها ونهب ثرواتها، بدون انتهاجه سياسة عرفت حينها بسياسة \”فرّق تسد\”، والتي درج عليها منذ ذلك الحين وترجمت باستهدافها تجزأة وتفتيتاً وشرذمة، جغرافياً وسياسياً، مازالت تعاني نتائجه ولم تقو بعد على الفكاك منها، كما سعى ولا يزال للحؤول دون وحدتها ولضرب كافة الاسس والأبعاد التي تستند إليها وترتكز عليها عوامل نهضتها، بالتوازي مع حربه المستمرة على هويتها وثقافتها، واستشراسه الدائم لتزوير وتشويه تاريخها. ومن هنا، جاءت فكرة الدولة المانعة، أو الأساس لافتعال الكيان الصهيوني الغاصب في فلسطين، التي سبقت نشوء الحركة الصهيونية ذاتها، بغية الفصل الجغرافي بين آسيا وافريقيا العربيتين، أو مشارق الأمة ومغاربها، ثم سايسبيكو لاحقاً… وتاريخ الصراع العربي الغربي القديم المتجدد مليء بالأمثلة والشواهد والعبر التي لامجال هنا لسردها. المشروع الصهيوني، كمفردة من مفردات هذا المشروع الغربي الاستعماري وبعضاً من تفاصيله، دأب، قبل نشوء كيانه الغاصب في فلسطين وبعده، على السير في ذات الاتجاه، وسعى إلى اختراق كتلة الأمة عبر التسلل إلى مكامن ضعف وحدتها، التي من بينها قضايا اقلياتها العرقية والطائفية المزمنة في غياب امتلاكها لمشروعها النهضوي الكفيل بحل مشاكل ومظالم هذه الأقليات، ذلك بتغذية نوازعها الانفصالية ودعمها وتسعير غرائزها الانعزالية وتحريضها. مع الزمن، والغزاة عادةً لايقيمون وزناً لصنائعهم ولا يحفظون جميلاً لعملائهم، أولا يتستروا طويلاً على من وقعوا في شباك سياساتهم، بدأ الإسرائيليون، كلما أحسوا بأنه لم تعد لديهم حاجة للكتمان، يسرّبون بعضاً من خفايا تلك المحاولات، كاشفينها في كتب تصدر ومذكرات تنشر إلى جانب متعدد الدراسات المتعلقة، ويمكن أن يضاف الى هذا المقالات والتحقيقات الصحافية الى تعالج الحقبة الزمنية التي نعيش، فاضحين جوانب من تعاون بعض المتعاونين معهم. مثلاً، لم يعد اليوم سراً تواريخ بدايات تواصلهم مع المارونية السياسية الانعزالية في لبنان قبل وبعد نكبة فلسطين، والذي وصل لاحقاً أوجه في التحالف العلني المعروف إبان الحرب الأهلية اللبنانية سبعينيات القرن المنصرم. وكذا علاقاتهم القديمة والممتدة مع البرزانيين والحركة الانفصالية الكردية في شمال العراق، وصولاً إلى راهنها في ظل الاحتلال الأمريكي، الذي جعل من كردستان العراق شبه المنفصلة عن الوطن العراقي ملعباً موسادياً مكشوفاً وقاعدة ومرتكزاً للتغلغل في كافة الخارطة العراقية وجوارها. كما لم يكن سراً منذ أمد بعيد مواكبة الإسرائيليين للحركة الانفصالية في جنوب السودان ورعايتها ودعمها منذ أول أيامها، أو ما أسس لهذا التواجد الإسرائيلي الكثيف الظاهر الآن في ظل من العلاقة الحميمة المعلنة بين إسرائيل وحكومة جنوب السودان بعد فصله كحصاد آن قطافه لتلك المواكبة، الأمر الذي أدى الآن إلى فك عقدة لسان الجنوبيين، الذين دأبوا سابقاً على نفي الصلة مع الإسرائيليين ما استطاعوا رغم كشف الإسرائيليين لوقائعها، ليبدأوا الآن في الحديث عن تاريخية هذه العلاقة وتفاصيل بداياتها ومتتالي وقائعها. مثل هذا ما كان في حوار صحفي نشر مؤخراً في فلسطين المحتلة أجري مع رائد الحركة الانفصالية التاريخي في جنوب السودان جوزيف لاغو، الذي تعرض فيه سارداً لوقائع البدايات المؤسسة لهذه العلاقة وزيارته الأولى لتل أبيب عام 1968، معدداً بامتنان اشكال الدعم الإسرائيلية للحركة الانفصالية السودانية الجنوبية، من مثل معسكرات التدريب في اثيوبيا التي تخرج منها زعيم الحركة جون جرنق وسلفا كير خليفته ورئيس الدولة الوليدة بعد الانفصال، والأسلحة الإسرائيلية التي كانت تلقيها في احشاء الأدغال الطائرات التي تتزود بالوقود إبان عودتها في كينيا. ما كان من حال ما جرى مع المارونية السياسية والأكراد وزنج السودان جرى مثله مع غلاة الحركة الأمازيغية في المغرب العربي، لاسيما منها تلك الوريثة لرواسب فكرة \”الظهير البربري\” الفرنسية الاستعمارية بدايات القرن المنصرم، وتلكم الأخرى التي هي بعض من الحصاد الخبيث لما بذره \”معهد الدراسات البربرية\” في باريس. ذلك بدأ يظهر عبر مستجد الدراسات الإسرائيلية، والتي منها ما صدر منها عن مركز \”موشي دايان\” حول تاريخ الدعم الإسرائيلي للحركة الأمازيغية في نطاق ما يصفه الإسرائيليون بسياسة \”رعاية الفاعلين غير العرب في محيط الشرق الأوسط\”، أو محاولات الإفادة منهم في سياق الصراع مع الأمة العربية، لدرجة البحث عن علائق تاريخية يهودية بربرية مزعومة وصلت حد الكلام عن مقاومة مشتركة للغزو العربي للشمال الأفريقي… من هؤلاء أمازيق برنارهاليفي الذين مزقوا صور الزعيم الراحل جمال عبدالناصر المرفوعة في شوارع طرابس الغرب بعد تحريرها ناتوياً! جوزيف لاغو لخص كنه مثل هذه العلاقات في ايراده لنص رسالة تهنئة كان قد وجهها لليفي اشكول عقب هزيمة العرب في نكسة 1967، قال فيها: \” سيدي رئيس الحكومة، أنا أبارك لكم، أنتم شعب الله المختار، نجاحاتكم، ونحن واياكم نحارب العرب أنفسهم الذين تحاربون. إذا قدمتم الدعم لي فإن بوسعي توفير شيء لكم بنجاح، سوف أشد وثاق الجيش السوداني وامنعه من الوصول إلى مصر لمقاتلتكم إلى جانب المصريين\”… هذا الكلام للاغو، قال ما لايختلف عنه كثيراً الانعزاليون الموارنة والانفصاليون الأكراد، وليس بعيداً عنه أيضاً ما قاله أحمد الدغري الناشط الأمازيغي المتطرف، الذي وصف العلاقة مع إسرائيل في مقابلة صحفية بأنها \”احدى وسائل الدفاع عن النفس\” ضد العرب والمسلمين على السواء! … مع الأيام، وحيث الصراع مع المشروع الغربي الاستعماري وتجليه الصهيوني مستمر ومديد، ترى كم من لاغو لدينا لانعرفه بعد، وهذه المرة ممن هم ليسوا بالضرورة من أقليات الأمة وإنما من أغلبيتها. كم منهم سوف يكشف لنا الصهاينة عنهم في قادم الأيام؟!

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *