[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]محمد بشير علي كردي[/COLOR][/ALIGN]

تعكف رشا هذا الأسبوع على مقارنة ما كانت عليه المدن العربية في القرن الثامن عشر، وما كانت عليه باريس والمدن الفرنسية من حيث الرقي العمراني والبشري.
دفعها لذلك قراءتها رواية العطر للكاتب الفرنسي باتريك زوسكيند (ترجمة الأستاذ نبيل الحفار وإصدار دار الندى بدمشق). فقد كتب المؤلف في مقدمة روايته \”بأن روائح نتنة هيمنت على المدن الفرنسية في القرن الثامن عشر، فالشوارع كانت تنضح برائحة الغائط، وباحات المنازل الخلفية برائحة البول، وأدراج البنايات برائحة الخشب المتفسخ وروث الجرذان، والمطابخ برائحة الملفوف المتعفن وشحم الخراف، أما الغرف غير التي لا يتخللها الهواء فقد كانت تنضح برائحة الغبار الرطب، وغرف النوم برائحة الشراشف المدهنة واللحف الرطبة المحشوة بالريش، وبالرائحة النفاذة المنبعثة من المباول…. أما البشر فقد كانوا ينضحون برائحة العرق والملابس غير المغسولة، ومن أفواههم كانت تنبعث رائحة الأسنان المتعفنة، ومن بطونهم رائحة البصل….. وكانت رائحة الفلاح كريهة كرائحة القس، ورائحة الحرفي المتدرب كرائحة زوجة المعلم، كانت طبقة النبلاء كلها تنضح بالرائحة الكريهة بما فيها الملك نفسه الذي كانت تفوح منه رائحة حيوان مفترس، ومن الملكة رائحة عنزة شمطاء في الصيف والشتاء، ففي القرن الثامن عشر (حسب تبرير كاتب الرواية) لم يكن الإنسان قد توصل إلى وضع حد للتفاعل التحللي للبكتيريا، ونتيجة لذلك لم تكن هناك أية فعالية بشرية…كما لم يكن هناك أي تفتح على الحياة أو اندثار لها دون أن ترافقه رائحة\”.
في المقابل،كما اطلعت رشا، وفي ذات الزمن، كانت المدن العربية محاج الأوربيين، تبهرهم فخامة أماكنها المقدسة، ومبانيها، وما توفره مخازنها للتجار من بضائع يرغبون في شرائها وكتب يطلعون عليها. وكان أن بدأت رشا بمدينة السلام القدس فقرأت ما كتب عن رحلة الرحالة المغربي محمد المكانسي، موفد السلطان \”سيدي محمد بن عبد اللّه\”، وهو السلطان الذي حكم المغرب ما بين 1757 ـ 1790م، فقد كان مبهوراً بمعالم القدس وآثارها والمقدسات الكثيرة فيها، وكتب (بأن لأهل بيت المقدس بشاشة وطلاقة وأخلاق حسنة، وميل إلى مؤانسة الغريب، ومسامرته والمحادثة معه).
وانتقلت رشا من القدس إلى مدينة حلب لتوجز ما كتب عنها، ومنه قول ياقوت الحموي في معجم البلدان بأن الله خص حلب بالبركة وفضلها على جميع البلدان، وقول عز الدين بن شداد بأن حلب أعظم البلاد جمالا وأفخرها زينة وجلالا.. علية البناء والمنار، وماؤها صاف، وسعدها واف. لم تزل منهلا لكل وارد وملجأ لكل قاصد، لم تر العين أجمل من بهائها ولا أطيب من هوائها ولا أظرف من أبنائها.
وقول ابن بطوطة عنها :حلب من أعز البلاد التي لا نظير لها في حسن الوضع وإتقان الترتيب واتساع الأسواق وانتظام بعضها ببعض وأسواقها مسقفة بالخشب فأهلها دائما في ظل ممدود.
وما كتبه عنها القنصل الفرنسي دافيور الذي زارها عام 1683م:
إن مدينة حلب هي الثالثة في الممتلكات العثمانية بالأهمية، فبوصفها وسعتها وسكانها ورخائها ، هي اقل من القسطنطينية والقاهرة، إلا أنها بصحة هوائها ومتانة بنائها وأناقتها ونظافة طرقها أفضل من الاثنتين، وعلى الرغم من ضعفها التجاري النسبي، إلا أنها لا تزال تتمتع بشهرة تجارية. حلب تعج بالسكان من جميع الأمم، وتضم من المسيحيين ما يقارب الثلاثين ألفا من أصل 290 ألفا وهي مدينة تجارية كبيرة تتعامل مع آسيا وأفريقيا وأوروبا، وتشمل 12 ضاحية وبيوتها من الحجر وهي نظيفة جدا وقد زينت بالرخام والقاشان … أما الأسواق فحدث عنها ولا حرج، فهي أبنية ضخمة مقسمة إلى عدة ممرات مقببة بالرصاص وتحتوي دكاكين معظم التجار والصناع وفيها تشاهد جميع بضائع العالم من الماس إلى حزم القصب.
وتتساءل رشا ما الذي دهى البلدان العربية؟ باريس ومعها العواصم الأوربية اليوم في قمة الأناقة والشباب، والمدن العربية تعاني من التخلف والشيخوخة.
أجبتها أن السبب يكمن في غفوة طويلة لعالمنا العربي والإسلامي تجاوزت الخمسة قرون ساعد على طول أمدها استعمار أوربا لمعظم بلداننا، ومن ثم زرع إسرائيل في فلسطين وما ترتب على ذلك من عدم استقرار وهدر للموارد بما يعود بالفائدة على الغرب وبالتالي على تشبث إسرائيل بالأرض لما يضخه الغرب لميزانيتها من أموال بغرض التفوق على كافة الدول العربية علميا وعسكريا. ومع هذا، وكما قدر لقصر فرساي أن ينظف سطحه من فضلات سكانه ويصبح معلما من معالم باريس، فإن تراب أرض فلسطين سيعود لجوهره وصفائه.

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *