[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]محمد أحمد عسيري[/COLOR][/ALIGN]

الصدفة البحتة هي من قادتني ذات نهار لزيارة صديق يرقد بإحدى المستشفيات لإجرائه عملية جراحية معقدة . كان يوما اعتياديا كبقية الأيام التي تبدأ وتنتهي دون وضع بصمتها فوق جبين حياتي ، قبل أن أعبر عتبات الدخول للقسم الذي كان يرقد بداخله .. كان كل شيء بداخلي متجمد كقالب ثلج اسكندينافي .. و مشاعري تبحر بأشرعتها نحو شرق بعيد وأفكاري تعبث كصبية يقذفون بعضهم بكرات ورقية داخل فصلهم الكئيب . كنت أقلب باقة الورد التي جلبتها بين يدي وأنا انتقل من ممر لأخر وأرقام الغرف تتسلسل تباعا ..
الجو بارد للغاية وكل الأبواب تتشابه باستثناء الأرقام والحروف ، ورائحة المرض تثير بداخلي حالة من السأم وحتى الوجوه التي كانت تجلس بهدوء في الاستقبال لا تحمل أي ملامح وكأنها أحجار شطرنج تنتظر ما يحركها . فجأة وكأن ستارا من ضباب انقشع وإذ بي أقف أمام غرفة شبه مضاءة يكتنفها هدوء حذر كهدوء الصحراء المترامية . أخذت أنظر لكل شيء حولي وكأني تائه يبحث عن فاعل خير يدله .. لا أدري كيف استطعت التقدم بخطواتي المثقلة نحو الداخل ؟ فالأصوات التي كانت تصدر من خلف الستائر لا توحي بما يسر . تحول قالب الثلج المتربع داخل جسدي لبركان آسيوي تحرك بعد سبات طويل ليزيح كل ما في طريقه ، تحول عبث الصبية لحالة من الوقار الرهيب .. فتلك الأنات المتصاعدة توشك أن تقتلع أنفاسي لتقذف بها من ارتفاع شاهق . قرأت اسم صديقي على لوحة معلقة بجانب سرير محاط بأجهزة أجهلها تماما موصلة إلى جسد بلا حراك .. جسد ضاع نصفه ولم يتبقى منه غير شبح مغمض العينين شاحب اللون لا يقوى من أمره على شيء !
وقفت إلى جواره أقدم يدي من رأسه بحذر ولساني يلهج بأدعية حفظتها وفي صدري أمواج من تساؤلات غيبية تنوي التبخر من أوردتي .. سؤال أحدث بداخلي ثورة عارمة وهو يلح علي بطلب الإجابة عن ماهية هذا الإنسان الذي ما بين لحظة ولحظة يتحول لشبه كائن متصل بالحياة عبر أجهزة معقدة ؟
شعور بين اللامعقول والمعقول وحسرة على كل الظلم الذي تسببنا به لغيرنا ونحن مجرد كتلة من ضعف لا تقوى الصمود أمام تيار العدل الإلهي . منظر يشبه الفصل الأخير من مسرحية هزلية يموت فيها الفارس بسبب عثرة من فرسه الذي طالما غنى له أنشودة العزة . بعد لحظات لم تتجاوز العشر دقائق خرجت محملا بكم هائل من الذهول والحيرة وصوت بداخلي يحدثني عن ذلك الطريق الذي نسلكه وما إن كنتُ أعرف نهايته ؟

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *