في خاطري شيء .. عواطف ..تباع وتُشترى
قبل عدة سنوات خلت في أحد المطارات العربية مشهد مضحك ومؤسف ..رأيت جمهرة من الناس وعلى وجوههم علامات الحزن والأسى، وقد أجهشت النساء بالبكاء وأدمعت أعين الرجال، وظننت أن هذا الجمع قد يستقبل جثمان عزيز قضى في ديار الغربة، لكن كم كانت دهشتي عظيمة عندما عرفت أن هؤلاء الناس يودعون بالبكاء والعويل عروسين ذاهبين إلى الخارج لقضاء شهر العسل ..
وما يجري من مراسم في حفلات الوداع يجري مثلها في حفلات الاستقبال ..ولكن الحرارة تتفاوت بنسبة الشخصيات والمقامات وأهميتها ..
خلال نفس الفترة تلفن لي صديق يقول : ألست آتياً الى المطار بعد ظهر اليوم؟
قلت : خير إن شاء الله؟ قال إن الوجيه المعروف فلان عائد اليوم من الخارج ..ويجب أن نقيم له استقبالاً يفوق الاستقبال الذي جرى في الصيف الماضي .قلت : وهل صاحبنا عائد من هيوستن بعد أن هبط على سطح القمر وزرع فوقه علم البلاد؟ أم أنه كان يروح عن النفس في مرابع أوروبا؟ !!
فأقفل محدثي الخط قبل أن اقفله في وجهه الكريم ..
وهكذا جرت العادة في بعض المجتمعات العربية عندنا كلما سافر شخص ودعناه بالدموع وكلما عاد استقبلناه بالتهاليل والزغاريد ..في بعض المجتمعات العربية يتبارى المستقبلون والمودعون في إظهار عواطف الود فتجري المزايدات على ذرف الدموع في
حالة الوداع والتغاريد في ساعة الاستقبال ..هذا ما يحدث عادة في السفر القصير ..أو السفر مع العودة ..أما في مرحلة الرحلة الطويلة التي لا رجوع منها والتي لا بد أن يقوم بها كل إنسان بعد عمر طويل فأمرها أعجب، وما يحدث فيها أشد غرابة .
٭ شهدت مأتماً في الأسبوع الماضي لا يمكن للمرء أن يمر به ما للموت من حرمة وإجلال دون تعليق .. حضر المأتم بضعة ألوف جاء بعضهم لأنه تلقى دعوة نعوه بلغة الموت والبعض الآخر بداعي الفرحة والفضول ..وكثيرون من المعزين كانوا يجهلون الميت واصله وفصله ..حتى أن رجلاً كان بالقرب مني ويتصنع الحزن واللوعة سألني بصوت منخفض :
ومن هو الفقيد؟ ..
أجبته : الفقيد هو ذاك الذي تراه مسجي في النعش فخجل من سؤاله ومضى في سبيله .
وجاء دور المراثي البليغة والقصائد العصماء، خطب جلل، مصاب فادح ، داهية دهياء زلزال دك الجبل، إلى ما هنالك من تعابير . أضف الى ما كان يدور همساً بين بعض المشيعين والمتشيعات من تساؤلات ..ترى كم خلف الفقيد من إرث؟ إن زوجته ما زالت تتمتع بمسحة من جمال وكثير من مال، وتستطيع بالتالي أن تتزوج رغم تقدمها في السن .
وتطوعت سيدة من المعزيات بتسمية العريس المناسب، فوافقت جميع الحاضرات دون أي فيتو ..إلىذلك من تعليقات ليس من اللياقة والإنسانية أن تقال والميت لم يوار التراب بعد .
ولقد أصبحت المآتم في أيامنا كالأعراس ..فرصة ومناسبة لإظهار الوجاهة وبمقدار ما يكون مركز عائلة الفقيد وليس مركز الفقيد نفسه ..يكون مأتمه كبيرا أو صغيراً .
وقد روى لي أحد الأصدقاء ممن يقيمون بيننا قائلاً : منذ سنوات برز رجل عصامي تدرج من محام إلى أعلى الدرجات وكان هذا الرجل ينحدر من عائلة متواضعة لكن ما أن أخذ نجمه يلمع في الأفق حتى بدأنا نسمع بأقرباء جدد يدعون قرابته، وعندما أصبح نجماً صار سكان قريته بكاملهم يقولون إنهم أبناء عمه عندما تسلم مركزا مرموقاً فقد أصبح ثلاثة أرباع منطقته من أفراد عائلته .
وما دمت في صدد الحديث عن الوداع والاستقبال، فلا بأس من ذكر حفلة تملق شائقة حضرتها منذ أسابيع أقامها موظفو احدى المصالح الحكومية على شرف رئيسهم الجديد .
وقد سمعت في تلك الحفلة من الخطب الرنانة والتغني بعبقرية هذا الرئيس والاطناب في وصف ذكائه ونبوغه ما جعلني أشعر بالاشمئزاز واعجل بالانصراف .
لقد اعتمد البعض منا المبالغة في اظهار عواطفهم ..إن مدحوا شخصا رفعوه الى أعلى قمم المجد ..وإن كرهوه أنزلوه الى اعمق أعماق الأرض وكل هذا يصاغ في قالب من الاطراء أو الهجاء لا يستند إلى الواقع في كثير من الأحيان .
انه لمن الغريب أن تنحدر العواطف عند بعض الناس وهي أسمى ما في الإنسان إلى هذا الدرك السحيق لتصبح سلعاً تباع وتشترى في الدلالين مثلها مثل القناني الفارغة والثياب العتيقة .
[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]مالك ناصر درار
المدينة المنورة ص . ب ٥٠[/COLOR][/ALIGN]
التصنيف: