[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]عبد السلام المفتاحي[/COLOR][/ALIGN]

قبل ثلاثين سنة، عندما استأنست بالإقامة الطيبة العطرة في أجمل وأطهر وأعظم مدينة المدينة المنورة ما كان يخطر ببالي أنه بالامكان أن يفسح لي مجال للغياب، وما يخطر بالبال أن يصبح التنائي بديلا عن طيب اللقيا. فقد كنا نَعُدُّ جِوَارَنَا للروضة المشرفة مكسبا سرمديا وثروتنا التي لا تنضب أبدأً لقد مشينا فوق ثراها الطاهر وجاورنا ودرسنا واستضاء فكرنا الحالك بالنور المحمدي وياكم نطق لساننا في الحضرة النبوية بالمطالب الدنيوية والأخروية همسا وعلنا. ثم عدنا لأوطاننا نصارع مسالك الدنيا ودروبها الوعرة قست قلوبنا قليلا وانسابت في شرايينها ما تفعله السنون والاحداث والانتكاسات والمغامرات الصغيرة والكبيرة.. انشغلنا وتزوجنا وأنجبنا وسافرنا وتأملنا حتى تعبنا ولكن كلما أمعنا في التعب كانت تظللنا تلك البركات السرمدية من طيبة الطيبة.كلما اشتد علينا لفيح الحر وجهد الدنيا الزائلة استدعينا نسائمها الطيبة فيكون الابتهاج والسرور ويكون الرضا بعد الكد بإذن الله. وكذلك كان الأمر في ذلك الصباح ألفيت زوجتي تبكي حظها العاثر هي التي تعاكسها قرعة الحج للمرة الرابعة رغم خلوص النية واشتداد العزم والحنين الدفين إلى البقاع المقدسة، زادها الله قداسة وإشراقا، ومتعها بالأمن والرخاء ودوام الازدهار.وكانت تبكي ولسان حالها كأنما يقول:

[poem=font=\”Simplified Arabic,4,black,normal,normal\” bkcolor=\”\” bkimage=\”\” border=\”none,4,gray\” type=2 line=200% align=center use=ex length=0 char=\”\” num=\”0,black\” filter=\”\”]
في كل عام أرجو زورة معكم=فتنهضون وشأني دونكم ثقل
لو خف ظهري لكان الجسم مرتحلا=لكن قلبي أمام الركب مرتحل
يحدو به وجده والشوق سائقه=وكيف يدنو كلال منه أو ملل
واحسرتا فاز غيري بالوصال إلى=أرض الحبيب، ودوني سدَّت السُّبل
[/poem]

وفي ذلك الصباح لم يظهر أمامي إلا ابن المدينة المنورة البار يجري حبه لمدينته مجرى الدم في العروق.. هو هو كما عرفته منذ أكثر من ثلاثين سنة. حزين بالفطرة مرح عند لقاء الأحبة طيب وفي عميق في ثقافته وانسانيته يتعالى مثل نخلة ثابتة في قربان على كثير من الجراح.
نعم ظهر أمامي أخي الاستاذ علي حسون فقلت أثقل عليه لعلَّ الله ييسر على يديه سبل أداء الفريضة فيتحقق الأمل وتنجز الرغبة في التملي بزيارة الروضة المشرفة والطواف حول الكعبة المطهرة. وكذلك كان الأمر فقد أعادت مكالمته على قصرها لأدوائنا الغائمة في عز الصيف كل الصحو والأمل.. وخففت على زوجتي وطأة الشوق ولوائع الاشتياق وقال لي بلهجة حاسمة ومختصرة : «ابشر يا عبد السلام»

[poem=font=\”Simplified Arabic,4,black,normal,normal\” bkcolor=\”\” bkimage=\”\” border=\”none,4,gray\” type=2 line=200% align=center use=ex length=0 char=\”\” num=\”0,black\” filter=\”\”]
متى ينادي بي الحادي يبشرني=بشراك يا مغربي انزل فقد نزلوا
انزل بطيبة طاب العيش قد ظفرت=به يداك فلا خوف ولا وجل
قلبي بحب رسول الله مشتغل=يا ويح قلب له عن حبه شغل
[/poem]

وكيف لن نستبشر ونحن نضع في أذهاننا قوله صلى الله عليه وسلم (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم (الحجاج والعمَّار وفد الله إن دعوه أجابهم وان استغفروه غفر لهم).
وقد سئل صلى الله عليه وآله وسلم عن أفضل الأعمال فقال (إيمان بالله ورسوله، ثم جهاد في سبيله، ثم حج مبرور).إننا لنرنو وقد غمرنا الشوق إلى تلك البقاع المطهرة إلى الوقوف خاشعين ملبين أمام البيت الحرام معترفين بالتقصير ملتمسين المغفرة والرضوان نعم نرنو إلى ذلك لأننا نخاف أن ينقطع بنا حبل العاجلة ويداهمنا الأجل دون أن نجدد العهد ونتملى بطلعة المقام النبوي والكعبة المشرفة.
وقد أنجز حر ما وعد وتمت البشرى بحمد الله في هذا الموسم ويسر الله الحج والعمرة والزيارة بضيافة كريمة مباركة من وزارة الثقافة والاعلام بقيادة وزيرها الالمعي معالي الدكتور عبدالعزيز محيي الدين خوجه ضيافة سهلت الأداء وخففت المشقة والعناء وكان الوفد الاعلامي بمختلف جنسياته وشعوبه وألوانه فرحا مستبشرا شاكرين تمام النعمة والفضل بأداء الفريضة وحصول القصد.
ثم إن الكلام لا يحلو دون أن نعرج على ذكر أجدادنا المغاربة الذين عبروا رغم بعدهم الجغرافي عن شديد قربهم الوجداني وحبهم للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وذريته الطاهرة وأصحابه وتعلقهم به. وبرزت مظاهر هذا التعبير بانتاج مئات الرحلات الحجازية حيث كان الحجاج يدونون مذكراتهم عن الرحلة من حيث الاعداد لها ومراحلها ومشاعر مؤلفها إزاء البقاع المقدسة ونزيلها عليه السلام وما يكتنف ذلك من توسلات ورجاءات وبركات وكان البعض يتنفر مطولا حتى يشفي غليله من المحبة والشوق. قال يحيى السراج في فهرسته (لم يزل الفضلاء في كل عصر يقصدون الاقامة بمكة رجاء البركة فيأتونها من كل مصر ويرون بها الأعاجيب ويحدثون بها الناس).
***
كل تلك الفيوضات التعبيرية المشرقة من رحلات وقصائد مدح ورسائل شوق ومولديات وحجازيات، إنما هي حنين المجرى لمنبعه وشوق الطير لعشهِ. كتب ابن أبي الخصال على ما يروى في أزهار الرياض يقول (فَوَا أَسَفَا ألا أخب إلى ثراك مُقبلاً، وألا أكبُّ على مثواك مستقبلا، وألا أصافح من تلك العرصات، مدارس الآيات، ومهبط الوحي والمناجاة.. أسفا لا يمحو رسمه، ولا يصفو ندبه ووسمه إلا الوقوف بحرم الله وحرمك، والتوسل هناك إلى كرمه بكرمك..اللهم أعدني بالقرب على بعده ، واجعلني من المقتفين لهداه من بعده، وأغمرني بين قبره ومنبره).
وهكذا إذن كان دأب أسلافنا من أدباء المغرب قريبين على بعد بعيدين على قرب ما وهنوا وما تعبوا من إرسال رسائل الشوق وتدبيج قصائد الحنين ومدح خير الأنام فأنتجوا بذلك أدباً دينياً راقياً متميزاً. رغم أن الدين كما يقول الأصمعي لا يزيد في الشعر أو ينقص منه.
يقول أبو يحيى العزفي البستي الفاسي:

[poem=font=\”Simplified Arabic,4,black,normal,normal\” bkcolor=\”\” bkimage=\”\” border=\”none,4,gray\” type=2 line=200% align=center use=ex length=0 char=\”\” num=\”0,black\” filter=\”\”]
حن المشوق إلى ديار أحبَّته=فسقى الثرى شوقا لذلك بدمعته
وامتازه وجداً هبوب نسيمها=لما سرى بيديه طيب تحيته
أترى الزمان يجود لي بوصال من=أهوى فأحسبه له من نعمته
هل من سيل للورود بزمزم=كي ينقع الصادي لواعج غلته
أو من سبيل للحلول بطيبة=يقضي بها المشتاق أقصى منيته
حيث النبي الهاشمي محمد=أسمى عباد الله خير بريته
[/poem]

هكذا بعد ثلاثين سنة أعود للحج.. وخلال كل هذه المدة لا أذكر أني شعرت في حياتي بمثل ما شعرت به هذه الأيام بكل لحظاتها من الغبطة والرضا والطمأنينة.. سواء في مكة أو المدينة أو المشاعر المقدسة.. كانت المعاني قوية والإشارات دالة والفضاءات تبوح بأسرارها لوحدها.. أدعية بكل الأنغام والمقامات وتوسلات بكل اللغات وحتى الصمت والانزواء أمام قداسة الزمان والمكان كان له معنى..كان هناك شعور قوي وعميق يأخذ بمجامع القلب.. شعور آت من أعماق الروح. شعور ملك علينا كل وجودنا غمر والله ظاهرنا وباطننا.
تباركت يا ربي وتعاليت. ها قد أنعمت عليَّ بالوقوف حيث كان يقف عبدك ورسولك لأعبدك مخلصا لك الدين.وأنعمت عليَّ أن أقف في حرمك وأن أقف في زمرة المسلمين في مشاعرك في عرفات ومزدلفة ومنى ويسَّرت لنا الوقوف والدعاء والطواف حتى امتلأ القلب صفاءً وابتهاجاً وحتى أحسسنا في كثير من اللحظات أن الأمكنة كلها هنا تُسبِّح بذكر الله وتلهج بحمده وشكره..
هكذا وفي أجواء إيمانية خالصة ودون حوادث أمكن لأكثر من 2,8 مليون حاج أداء مناسكهم وسواء في منى أو عرفات أو مزدلفة أو عند رمي الجمرات أو عند الطواف، كانت هناك العديد من الإجراءات التنظيمية والبنيات التحتية والإمكانيات الكبيرة تديرها عقول وسواعد وأطر وكفاءات سعودية ماهرة ومتدربة ومحترفة وضعت كل طاقاتها من أجل تسهيل أداء الحج وخدمة ضيوف الرحمن تنفيذاً لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز متعه الله بالصحة والعافية الذي يعتبر خدمة الحجيج أمانة وشرف ومسؤولية.
مشاريع عملاقة لا عهد لي بها قبل ثلاثين سنة. قال لي صديق من المغرب العربي (السعوديون يهتمون بالعمل والبناء.. فيما يهتم الآخرون بالإيدويولوجيا).استعدادات ضخمة وأسطورية .. حشد لطاقات كبيرة عزائم رجال وإرادة تقوية لمسؤولي دولة يعون مسؤولياتهم اتجاه شرف خدمة ضيوف الرحمن..جسور وقناطر وطرق واسعة، قطارات ومركبات كثيرة وطائرات وكاميرات توجه الفرق الأرضية لمواقع الزحام..
أمراء ووزراء وقادة وضباط وجنود .. موظفون سامون وآخرون عاديون .. سيدات سعوديات متطوعات لأعمال الخير والتوجيه.. مسعفون وكشافة. كلهم يشتغلون ليل نهار كخلية نحل بلا كلل..جميعهم يعزفون أحلى سمفونية في التنظيم المحكم وتنفيذ الخطط الميدانية.كل تلك الإمكانيات.. كل أولئك الرجال
من أجل أن تتمكن وفود الرحمن من أدائهم للركن الخامس من أركان الإسلام بكل يسر وأمان.. وأن يعودوا إلى أوطانهم سالمين وغانمين.

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *