في إحدى القرى الريفية الصغيرة التابعة لمدينة ” نانسي ” الفرنسية ، كان يعيش فتى صغير مع أسرة محدودة الدخل ، والده كان خبازاً بالكاد يجد ما يسد به الفاقة ، لذلك أحرم ابنه اللحاق بالمدرسة ، لكنه مع إصرار الزوجة ( أم الفتى ) وبعد عدة محاولات من الأقارب والجيران اقتنع الخباز بضرورة إتاحة الفرصة للفتى أن يتعلم ، وبدوره الفتى استطاع أن يوفق بين عمله ودراسته ، أول النهار في المدرسة وآخره في المخبز.
ذات مرة – وبالتحديد قبيل التخرج – ؛ لمح الفتى ملصقاً لإحدى المعاهد العسكرية العليا وقد كتب فيها أن باب الالتحاق بالمعهد أصبح متاحاً ، وعلى من يجد في نفسه القدرة والرغبة أن يتوجه لمدينة ” ميتز ” لإجراء اختبارات القبول ، فأسرها في نفسه ، لكنها ما لبثت حتى بدأت مدينة ” ميتز ” بأبنيتها وشوارعها تداعب خياله سيما بعد التخرج ، أكثر ما مان يؤرقه أن ميتز بعيدة جداً وليس بمقدوره تحمل تكاليف الرحلة ، وأبوه لن يوافقه على ذلك . لكن الأخير لم يكن بذلك السوء ، فما أن تلقى خبر ذلك الإعلان منه حتى أظهر له ما لم يكن في الحسبان ، حيث يقول الفتى : كنت أنتظر من والدي حينها أن يصفعني بشدة على ما أفشيت به من رغبتي تلك ، لكنه صمت لبرهة ثم انصرف خارج الحجرة ، لكنني ما لبثت حتى عاد ليضع في راحة يدي ” 10 فرنكات ” وقال : خذها يابني وانطلق لميتز .
الفرنكات العشر لم تكن لتفي بقيمة تذكرة القطار ، لذلك اخترت الوسيلة الصعبة .. المشي ، فاستغرقت مني الرحلة قرابة اليومين قبل أن أجد نفسي وسط مدينة ” ميتز ” ، فبت ليلتي بالقرب من سور المعهد استعداداً لموعد الاختبار الذي كاد أن يفوتني لولا أشعة الشمس ، ما أن شعرت بلفحها تلسع جبيني حتى هرعت نحو البوابة ثم المبنى ولم انتبه إلا وأنا ألهث داخل قاعة الاختبار ، ضجت القاعة بالضحك والقهقهة من شكلي الرث وثيابي البالية !! فتى قروي فقير.. قضى ليلتيه الماضيتين يمشي بين عشرات القرى والأودية والقفار حتى تشبعت فروة رأسه بكل عوالق الطريق علاوة على أرديته المرقعة ، ونعله الممزق يدلف مكاناً جل من هم فيه كانوا من أبناء الذوات والتجار ، لقد كان من الطبيعي أن يضحكوا ويتساءلوا من هذا المتشرد ؟ وكان من الطبيعي أن أخاف وارتبك على إثر ذلك ، كادت أقدامي أن تخذلني لولا أن أحد المشرفين اقترب مني مرحباً ثم قال ” يبدو أنك ضللت الطريق يا بني.. هنا مكان اختبار الراغبين الالتحاق بالمعهد ” فقلت له بارتباك شديد” أنا أريد أن التحق بالمعهد ياسيدي ” لتعود ضجة الضحك من جديد ، فدون اسمي بلطف وقال ” اجلس وانتظر دورك ولا تكترث لهم ” ، وحينما بدأت إعلانات النتائج أمام ساحة المعهد طلبتني اللجنة للمثول أمامها ، فأنصت الجميع باهتمام بالغ يدفعهم الفضول !! أي مأزق أوقع هذا المتشرد نفسه فيه؟ حتى أنا شككت في نفسي وأيقنت أني قد بلغت نهاية رحلتي ، لكن المفاجأة !! أني قد حظيت بإعجاب اللجنة، لدرجة أن أحد أعضاء اللجنة قام من مكانه وعانقني ، مباركاً لي انضمامي للمعهد . هذا المتشرد هو ” دروث ” أحد أعظم قادة جيش نابليون الأول في زمنه . لم أورد قصته لأقول أنه كان مثالاً للإخلاص والجد والتفاني ، بل ربما أنه كان عكس ذلك ، إنما لأقول بأنه مثالاً لمن يبذل قصارى جهده رغم قسوة كل شيء من حوله ، فالعبرة دوماً في من يبذل أفضل ما لديه وليست في من يدعي أنه الأفضل.

@ad_alshihri
[email protected]

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *