في الشراكة الثقافية بين العرب والغرب

Avatar

[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]عبد الإله بلقزيز[/COLOR][/ALIGN]

يؤذن الحديث عن “شراكة ثقافية”، أو حضارية، بين مجتمعات وأمم وثقافات عاشت في ما مضى سوابق صدام مادي ورمزي بينها ببداية انطلاق منحى جديد في نظام العلاقات العالمية المعاصرة بعد الذي أصاب هذه العلاقات من السياسة والسياسيين من شروخ واضطرابات وقطيعات وسّعت مساحات الفجوة بينها، ورسخت ما بينها من فواصل وتمايزات على حساب ما بينها من جوامع وقواسم مما يحتاج إلى تنمية وتعظيم. وربما بدا لكثيرين أن مثل هذا الحديث عن “شراكة ثقافية” بين الشمال والجنوب ومنها “الشراكة” بين دول ومجتمعات ضفتي المتوسط هو مما يقع في جملة حديث عام، جار وزاحف، عن “الشراكة الاقتصادية” بين العالمين: بدأ منذ مطالع عقد التسعينات من القرن العشرين قبل أن يجد لتطبيقاته السياسية صيغاً مؤسسية رسمية في برشلونة. ونحن إذ نستبعد وجود صلة ما معلنة أو مضمرة بين تينك “الشراكتين” فلسببين:
* أولهما لأن الحديث في هذا النوع من “الشراكة” الذي نتحدث عنه حديث ثقافي: ينشغل بأمره مثقفون منتجون للمعارف وللقيم الرمزية، مستقلون في المعظم من حالاتهم عن مراكز القرار السياسي في بلدانهم. لذلك، فالموضوع الذي يقاربونه ثقافي في المقام الأول ولا يتحمل إلحاقاً بغيره. وهم سبقوا أن تناولوه في الماضي تحت عنوان ومن طريق الدعوة إلى التثاقف، وليس جديداً عليهم أن يهتجسوا به ثانية، ولا الاهتجاس هذا رهن بظرفية سياسية دولية يزدهر فيها خطاب “الشراكات” كالظرفية التي نحن فيها يتسوَّغ بها أمره ويستقيم.
* وثانيهما أن منطق “الشراكة الثقافية” مختلف أو يفترض فيه أن يكون مختلفاً عن منطق “الشراكة الاقتصادية”. فهذه (الأخيرة) الغالب عليها أن تكون مغشوشة بين مجتمعات غير متكافئة الإمكانات والموارد والمقدرات، أي بسبب الاختلال الفادح في توازن القوة الاقتصادية لصالح الميتروبول الغربي، وهو الاختلال الذي يزيد تكرساً ورسوخاً نتيجة انتظام العلاقات بينها على مقتضى مبدأ القوة كمبدأ حاكم لها وفيها. وعلى ذلك، لا تكون “الشراكة” في هذا المساق أكثر من اسم حركي مهذب لهيمنة جديدة: هيمنة تجدد آلياتها وطرائقها على نحو قليل التكلفة سياسياً إن هو قيس بما كان عليه حالها من انكشاف للأهداف والمقاصد في ما مضى. أما “الشراكة الثقافية”، فقد لا تكون محكومة دائماً بمنطق القوة المادي لأنها في المقام الأول تبادل للقيم الرمزية، وقد لا يسري عليها، في سياق علاقات صحية متوازنة، قانون تنازل الضعيف للقوي في الشراكة، فالثقافات لا تتنازل عن شخصيتها بقرار كما تتنازل الدولة عن سياسات اقتصادية مثلاً خشية الوقوع تحت طائلة إجراءات زجرية من الخصم.. الخ.
من النافل القول إن أهم مائز يميز هاتين “الشراكتين” أن “الشراكة الثقافية” شراكة بين مجتمعات وثقافات ومجموعات وأفراد وليست “شراكة” بين الدول فحسب على نحو ما هي عليه “الشراكة الاقتصادية”. لكنا ما توقفنا أمام هذا المائز لسببين على الأقل: لأن في جملة “الشراكة الاقتصادية” أيضاً ما ليس يجري بين الدول حصراً وإنما يقع بين المجتمعات والأفراد والجماعات، ومن ذلك “الشراكة” بين مؤسسات القطاع الخاص في بلدان العالم كافة، ولأن “الشراكة الثقافية” وإن فاضت عن النطاق الحصري للدول محكومة، في مطافها الأخير، بالقوانين والمؤسسات المرعية في بلدان العالم، ناهيك عن أن الدولة تساهم فيها على نحو ما من الأنحاء: من طريق سياساتها الثقافية العليا، والإيديولوجيا الرسمية، والمؤسسات المختصة (الجامعات، المعاهد، المراكز الثقافية…). ومع ذلك، من السائغ أن يقال إن هوامش استقلال الثقافي عن سياسات الدولة أوسع بما ليس يقبل القياس من هوامش الاستقلال المتاحة أمام العلاقات الاقتصادية. وهذا إنما يسمح بالاعتقاد بأن مثل هذه “الشراكة” ممكن بين الثقافات والمؤسسات الثقافية والمثقفين بعيداً ولو قليلاً عن “أجندات” الدول والسياسات الرسمية، أو قريباً من منطق الثقافة الذي لا يطابق منطق السياسة بالضرورة وفي الأحوال كافة.
سندع جانباً السؤال المشروع عما إذا كانت الرؤى المتبادلة بين الثقافات أو بين المجتمعات والأمم أصفى من القبليات والمضامين الإيديولوجية والصور النمطية من تلك التي تنطوي عليها سياسات الدول أم تضارعها فيها وتضاهيها. وسندع أيضاً على الجانب سؤالاً لا يقل عنه شرعية حول ما إذا كانت سياسات الدول نفسها مجرد انعكاس لرؤى وإدراكات تنمو ابتداء في أحشاء الثقافات والمجتمعات قبل أن تنتقل إلى الدول والسياسات.. إلخ.
سندع ذلك كله مفترضين إمكان “الشراكة الثقافية” والحاجة إليها، ومسلّمين بتمايز معناها عن معاني “الشراكات” الجارية والمغشوشة، والتفكير في الصور الأمثل لهذه “الشراكة” وفي المشكلات التي يمكن أن تطرحها تجربتها على المجتمعات والثقافات التي تخوض فيها، فنتساءل عن المقدمات التي لا بد منها للدخول إلى فرضية الشراكة والتفكير في أوضاعها.
قلنا: المقدمات، لأننا نصدر عن رؤية تحسب أن الدخول النظري والمنهجي إلى فرضية “الشراكة الثقافية” ليس مفتوحاً على أفق واضح وصحيح إن لم يسبقه ويمهد له تفكير في أساسات أولية عليها يتوقف العمل بتلك الفرضية، وأهم تلك الأساسات التفكير في ما قبل الشراكة أي جملة الأسئلة والإجراءات التي يتحدد بها مسار الشراكة الممكن. وقد نكون في هذا المعرض أمام مسألتين رئيسيتين وابتدائيتين من الزاوية المنهجية لا سبيل إلى الحديث في هذه الشراكة بمعزل عن تناولهما: أمام مسألة الحوار بين الثقافات بحسبانه فعلاً سابقاً للشراكة (ومقرراً للتقدم نحوها أو إعاقته): أسبقية زمنية ومنطقية، ثم مسألة الفرص الفعلية المتاحة أمام قيام “شراكة” حقيقية بين الثقافات أو علاقة حقيقية تستحق أن تتعين تعييناً دقيقاً بعبارة الشراكة. وهذا بيت القصيد في الموضوع.
عن صحيفة الخليج

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *