سرقة الأفكار
[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]د. حماهُ الله وُلد السالِم [/COLOR][/ALIGN]
سرقة الأفكار أشدّ على النّفْس من وقْع الحسام المهنّد، لأنها وبكل بساطة جزء من نفس الإنسان، من عقله وكيانه، تعِب أياماً وشهوراً وربما سنوات لإنتاجه وتقديمه للناس.
باتت سرقة الأفكار ديْدن الكثيرين على الشاشات الفضائية وداخل مدرجات الجامعات وفي معارض الكتب والبرامج.
يظهر على هذه الفضائية أو تلك من يحمل لقباً علمياً أو صفة ثقافية أو حتى سياسية، ثم لا يجد حرجاً ولا مانعاً من التقدم بالأفكار \”النيرة\” والطروحات \”المتماسكة\” والآراء \”السليمة\” ثم لا يكلف نفسه عناء العزو لا تصريحاً ولا تلميحاً إلى المصدر الذي استقى منه تلك الثوابت والطروحات، بل ويتباهى بتغليفها بثوب صفيق من التلوين الذاتي والإجْرائي لتنسجم مع مزاجه وأسلوبه، لتتكامل أركان السرقة وتستوي على سوقها.
يقوم بذلك ومجمل كلامه قد استقاه للتو من هذا الكتاب أو حتى من هذا المقال المنشور على تلك الصحيفة وما يزال طرياً.
المُحاوِرُ من الصحفيين لا يعنيه ذلك، لأنه وببساطة ليس معنياً بالتفتيش على النيّات، وقصارى ما يمكنه هو عجْم عود من يستضيف، ومعرفة مستوى تحليله وإدراكه عمقاً وفهماً، أما ما خفي ولو كان أعظم، مثل السرقة والتدليس فلا يعنيه قليلاً ولا كثيراً.
يتكل سارقو الأفكار وهم أمام الجمهور على انشغال المشاهدين ونسيانهم وقلة عنايتهم بالقراءة، وكسلهم عن المطالبة بحقوق الناس ولاسيما الفكرية والأدبية.
صار من الدارج لدى بعضهم أن يُلمْلم جملة أفكار ناضجة ورصينة من مقال هذا الكاتب أو ذاك، ثم يرتبها كيفما اتفق ويضعها في نسق معين، ثم يطبع ذلك بطابعه الخاص ويقدمه سلعة فكرية يعرضها لعموم المشاهدين!
حدث ذلك ويحدث ومازال بالإمكان أن يستمر، إن لم يتم وضع ضوابط تفرض على كل متحدث عن قضايا بعينها، نسبة الأفكار إلى أصحابها، لاسيما إن كانوا أحياء يرزقون، بل ويُشاهِدون ويُتابِعون، ويعرفون ما تتم سرقته من أفكارهم ومن أين تمت سرقتها، ولئن لم ينته السارقون فسيفضحون عما قريب.
والأغرب من كل ذلك والأدهى والأمرّ أن يكون من بين لصوص الأفكار من يُظنُّ بهم شيئاً من القيم والفطنة وحتى الكفاءة، ما يجعل اتهامهم صعباً وضرورياً في آن، وقديماً قيل لا دين لمن لا أمانة له، ونحن اليوم نضيف: ولا أمانة لمن يسرق أفكار الغير.
سرقة الأفكار ألوان وأشكال؛ منها ما قدّمنا نزراً منه، ومنها سرقة المؤلفين لأعمال بعضهم، وعدم العزو إلى من نقلوا عنهم، وتتم بعدة طرق كتغيير الأسلوب أو بتر الأفكار وحتى نسبة النص إن كان استشهاداً إلى نفس المرجع أو المصدر وكأنهم رجعوا إليه ابتداء، والنوع الأخير يسميه المحدّثون تدليساً!
وهذا النوع من السرقات عمت به البلوى، وجعل أعمال كبار المبدعين والباحثين في مهب الريح، ليس من حيث الإضرار بأصحابها مادياً، فهو ضرر يمكن تلافيه، ولكن لأن السارق قد يشوه أفكار الكاتب أو المؤلف ما يفرغه من أية قيمة فكرية أو إبداعية ويجعل ضرره أكثر من نفعه على صاحبه. وقديماً قيل:
وهُمْ نَقلوا عنّى الّذي لمْ أقُلْ بهِ
وهلْ آفَةُ الأشْعار إلاّ رُوّاتُها!
وفي كل يوم تتهاوى منظومات معرفية كانت بالأمس مِلء السمع والبصر، وتظهر للعلن أخرى، وتختفي مدارس فكرية وتتراجع تلك، ما يجعل متابعة الملْكية الفكرية في تلك الفنون صعباً ومعقداً، لاسيما وهو غير مصنّف تحت بند \”السر القومي\”. لكن حقل التقانات الحساسة، والمحظورة، هو في غالب الأحوال، ميدان خصب للصراع والسرقة والتغابن والبيع والشراء من دون رقابة وخارج القانون.
ولذلك ظلت السرقة العلمية ميدان صراع مرير بين الأمم والبلدان والمؤسسات الصناعية، حيث تدور حرب عوان بين أجهزة استخبارات الدول المتقدمة لحماية أسرارها الصناعية من السرقة والتزوير والاختراق. وكم سمعنا عن موظف في مؤسسة صناعية عسكرية أو مدنية، هنا أو هناك، ثبت تورطه في حادث سرقة معلومات حساسة قد تعرّض المؤسسة للإفلاس بل وقد تودي بحياة الملايين من البشر. ولذلك فلا يعرف عنه الشيء الكثير، وأضراره إن حصلت، محصورة عادة في نطاق أكثر سرية وخصوصية.
أما سرقة الأفكار من الحقل الأدبي والفكري والمعرفي، فتتم يومياً، لأنها الهواء الذي لا تتنفس بدونه جلسات الحوار والتحليل وحتى دراسات تقدير الموقف وأوراق البحث المختصرة المطلوبة للمراكز وصنع القرار والبرامج الحوارية والتوثيقية.
لقد بات من الضروري الانتباه إلى هكذا سرقات والعمل على إنهائها وفضح القائمين بها، أو الحد منها والتقليل من غلوائها وتأثرها المدمر على العلم وأهله والكتابة وأرْبابها.
كاتب موريتاني
التصنيف: