[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]غادة عبدالعزيز[/COLOR][/ALIGN]

خطوت داخل الطائرة وعيناي معلقتان بالأرقام أعلى المقاعد أبحث عن مكاني، وسريعا وجدته. كان بجانبي شاب لم أرَ ملامحه فحالما جلست سمعت صوتا خلفي يسأل الشاب أن يبادله المقعد، واستعجبت الطلب. فالمقعد الخلفي هو مقعد يجاور باب الطوارئ ويمتاز بمساحة واسعة تفصله عن المقاعد الأخرى ولم (يكذب) الشاب الخبر وهبّ من مكانه قائما ليبدل السيدة كأنه يحاول أن يصل إلى المقعد الجديد قبل أن تغير رأيها وجلست هي بجواري.
نظرت إليها، كانت امرأة كبيرة في السن وترسم على شفتيها ابتسامة واسعة. ووجدت الإلفة في وجه المرأة تساعدني أن أسألها عن سبب تركها مقعدها (الإستراتيجي) فقالت ببسمة: « إنني أعلم أن من يجلس في مقعد طوارئ الطائرة يجب أن يساعد الركاب إذا حدث عطب بالطائرة وأنا في سن لا يمكنني من أداء المهمة..»
وبدأت أتسامر مع رفيقة الرحلة الجديدة وعرفت أنها ذاهبة لزيارة ابنتها وحفيداتها الثلاثة، وحكت لي أن قبل سنتين توقف قلب ابنتها عن النبض وأسعفها الأطباء على مرأى من أسرتها وبعد أن حان وقت الخروج من المستشفى شكرت الأسرة الطبيبة التي ردت قائلة:» إنني أعلم أنني حينما أعمل لا بد وأن أقدم 100% من جهدي، لكنني حينما كنت أحاول إسعافك نظرت إلى بناتك الصغيرات ورأيت الهلع في عيونهن فعلمت أنني لا بد وأن أقدم 200% من جهدي.» كانت (روزميري)، وهو إسمها، تتحدث بألم جعلني أدمع من أجل إنسانة وأطفال لم أسمع بهم قبلا.
وحدثتني (روزميري) عن والدتها المسنة والتي عانت من السرطان في أواخر حياتها. ورعت (روزميري) والدتها في أواخر أيامها حتى دخلت غرفتها في ذات ليلة ورأتها تستنشق آخر نفسين في حياتها. وبدأت الدموع تنزلق على وجنتيّ (روزميري) ووجدتني أمد يدي وأحاول احتضان كتفها وواصلت وهي تمسح دموعها:» لقد مرت ثلاث سنوات منذ أن توفيت أمي لكنني أحس كأنني فقدتها منذ ثلاثة أيام..» وقصت لي بعدها عن زواجها الأول، أبناؤها وبناتها، حفيداتها، ثم قصة زواجها الثاني وبرود أبناء زوجها تجاهها.. وعرفت هي عني الكثير، من أنا، أسرتي، بلادي، نشاطاتي، اهتماماتي. وقالت لي في لحظة:» لا أدري لماذا قصصت عليك كل هذا؟» وابتسمت وأنا أقول لها:» لقد عرفتي عني الكثير أيضا..» ونزلت مع (روزميري) من الطائرة والتقيت أسرتها في باب المطار ثم فارقتها بعد أن تبادلنا البريد الإليكتروني متواعدين على التواصل.
لم تكن (روزميري) هي أول شخصية أقيم معها علاقة بطائرة وهذا ما يجعلني أفكر في العلاقة المتينة التي تتوثق بين المسافرين والتي غالبا ما تنتهي بانتهاء الرحلة، هل يشعر المسافر بأن الشخص الذي يجلس بجانبه صار أقرب شخص إليه فيتحاور وإياه؟ أم يكون جار الطائرة مثل الطبيب النفسي تتحدث معه كل المسافة عما يجول بخاطرك وتخرج من (السفرية) وقد أسقطت الكثير من أفكارك لشخص لن تقابله مرة أخرى.. أذكر أن بعض الشركات العالمية كانت تحذر موظفيها من مجالس مسامرات الطائرة لأن كثيراً من أسرار الشركة قد تخرج في خضم ذلك الجو غير الرسمي.. وهل أخبرتكم أن مدة (السفرية) كانت ساعة واحدة فقط؟
عن صحيفة الصحافة السودانية

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *